تقارير
أخر الأخبار

اقتصاد غزة بين تضخم الودائع وانكماش الواقع: مفارقة السيولة في بيئة بلا اقتصاد

تقارير | بقش

يقدم المشهد الاقتصادي في قطاع غزة واحدة من أكثر المفارقات حدة في الاقتصادات المتأثرة بالنزاعات، حيث تتزامن أوضاع معيشية شديدة القسوة مع تضخم غير مسبوق في الودائع المصرفية. ففي حين يعيش مئات الآلاف في بيئة شبه خالية من الدخل المستقر وفرص العمل، تكشف البيانات النقدية عن قفزة قياسية في حجم الأموال المودعة داخل الجهاز المصرفي، في مشهد يبدو متناقضاً ظاهرياً لكنه يحمل في جوهره دلالات اقتصادية عميقة.

هذه الظاهرة لا تعكس قوة مالية كامنة أو نمواً اقتصادياً مؤجلاً، بل تمثل نتاجاً مباشراً لاقتصاد مشلول، تعطلت فيه آليات السحب والتداول والاستثمار، فتحولت السيولة من أداة حركة إلى كتلة جامدة محبوسة داخل النظام المصرفي. وبدلاً من أن تكون الودائع مؤشراً على الثقة أو الفائض، أصبحت دليلاً على الانسداد الكامل للدورة الاقتصادية.

الحرب الممتدة منذ 2023 وحتى وقف إطلاق النار في 2025 لم تكتفِ بتدمير البنية التحتية الإنتاجية، بل أصابت القلب المالي للقطاع. فالمصارف، التي يفترض أن تكون صلة الوصل بين الدخل والإنفاق والاستثمار، تحولت إلى مخازن أموال لا وظيفة لها سوى التسجيل المحاسبي، في ظل غياب النقد، وتوقف الأعمال، وانعدام الأمان.

من هنا، يصبح تضخم الودائع في غزة ظاهرة سلبية بامتياز، تعكس اقتصاداً بلا استهلاك حقيقي، وبلا استثمار، وبلا قدرة على تدوير المال، ما يضع القطاع أمام نموذج اقتصادي مشوه لا يمكن قياسه بالمعايير التقليدية.

تضخم الودائع: رقم كبير بلا معنى اقتصادي

الارتفاع الحاد في ودائع البنوك داخل قطاع غزة، والذي تجاوز 178% خلال فترة الحرب وفق اطلاع “بقش”، لا يمكن قراءته بوصفه مؤشراً على تحسن مالي أو تراكم ثروة. فالزيادة جاءت في سياق إغلاق شبه كامل للقطاع المصرفي، وعجز المواطنين عن سحب أموالهم، لا نتيجة فائض دخل أو توسع في النشاط الاقتصادي.

جزء كبير من هذه الودائع نتج عن استمرار دفع الرواتب الحكومية للموظفين والمتقاعدين، إضافة إلى رواتب موظفي القطاع الخاص والمؤسسات الدولية، إلى جانب تدفقات تحويلات خارجية وصلت إلى السكان في شكل مساعدات نقدية. غير أن هذه الأموال لم تدخل السوق فعلياً، بل بقيت حبيسة الحسابات المصرفية.

في الظروف الطبيعية، تتحول الرواتب والتحويلات إلى استهلاك، ومن ثم إلى تجارة واستثمار، ما يحفز النمو. أما في غزة، فقد انقطعت هذه السلسلة بالكامل، فتراكم المال دون أن يؤدي أي وظيفة اقتصادية، ليصبح رقماً مالياً بلا أثر إنتاجي.

الأخطر أن هذا التضخم في الودائع يخفي في طياته انكماشاً حاداً في النشاط الحقيقي، إذ يعكس غياب الثقة، والخوف، وتوقف المبادرة الاقتصادية، لا وفرة أو استقراراً.

انهيار البنية المصرفية: نظام بلا أدوات

القطاع المصرفي في غزة تعرض لضربة هيكلية قاصمة. فالغالبية العظمى من الفروع المصرفية دُمّرت كلياً أو جزئياً، ولم يعد صالحاً للعمل سوى عدد محدود من الفروع التي تقدم خدمات رقمية محدودة دون تداول نقدي.

غياب النقد من السوق لم يكن خياراً تنظيمياً، بل نتيجة مباشرة لمنع إدخال السيولة، ما أدى إلى شلل كامل في وظيفة البنوك الأساسية. فالمصرف الذي لا يتيح السحب النقدي ولا يستطيع تمويل الأنشطة أو منح التسهيلات، يتحول إلى منصة تسجيل إلكتروني بلا تأثير اقتصادي فعلي.

إلى جانب التدمير المادي، تعرضت المصارف لخسائر غير محصورة نتيجة سرقات طالت أموالاً نقدية وودائع عينية محفوظة في خزائن البنوك، بما في ذلك مجوهرات ووثائق رسمية، حسب اطلاع بقش على المعلومات. وهذه الخسائر تضيف بعداً آخر للأزمة، يتمثل في تآكل الثقة طويلة الأمد بالقطاع المالي.

في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن تعافٍ مصرفي دون إعادة بناء شاملة للبنية التحتية، وضمان تدفق نقدي منتظم، وبيئة أمنية تسمح بعودة الوظائف المصرفية الأساسية.

اقتصاد بلا استثمار: السيولة كعرض للمرض لا كحل

أحد أخطر أبعاد الأزمة يتمثل في انعدام الاستثمار بشكل شبه كامل. فالأموال المودعة، رغم ضخامتها، لا تجد أي قناة لتتحول إلى مشاريع أو نشاط إنتاجي، في ظل غياب الأمان، وتوقف التجارة، واحتكار إدخال السلع.

هذا الواقع أدى إلى تشوه عميق في بنية الاقتصاد، حيث ارتفع الادخار القسري، لا الادخار الاختياري، وتراجع الاستثمار إلى مستويات تاريخية متدنية، ما انعكس مباشرة على الدخل القومي الذي سجل تراجعاً حاداً.

وجود عدد محدود من التجار القادرين على إدخال السلع، مقابل عمولات ورسوم مرتفعة، خلق اقتصاداً احتكارياً مشوهاً، لا يسمح بتدفق طبيعي للسلع ولا بتوازن سعري، وأنتج تضخماً سعرياً منفصلاً تماماً عن القدرة الشرائية الحقيقية.

في هذا النموذج، لا تعكس الأسعار العرض والطلب، بل تعكس علاقات القوة، والندرة المصطنعة، والعمولات غير الرسمية، ما يزيد من اختلال السوق.

أزمة السيولة اليومية: نقد نادر وتكاليف مرتفعة

على المستوى المعيشي، تحولت السيولة النقدية إلى سلعة نادرة بحد ذاتها. فالحصول على النقد بات مكلفاً إلى درجة وصلت فيها عمولات السحب غير الرسمي إلى مستويات قياسية، ما استنزف دخول الأسر المحدودة أصلاً.

الطوابير أمام أجهزة الصراف القليلة العاملة لم تعد استثناء، بل مشهداً يومياً يعكس عمق الأزمة. ومع كل تأخير أو تعطل، تتفاقم معاناة السكان، خصوصاً كبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة.

حتى النقد المتداول فقد جزءاً من وظيفته، إذ بات التجار يرفضون بعض الفئات أو الأوراق المتضررة، ما أضاف بعداً نفسياً وسلوكياً لأزمة السيولة، وحول التعامل المالي إلى تجربة مرهقة وغير مستقرة.

اقتصاد الحرب: تضخم أرباح الأقلية

في ظل هذا الانهيار الشامل، ظهرت فئة محدودة من المستفيدين عُرفت بتجار الحرب وفق قراءة بقش، واستطاعت هذه الفئة تحقيق أرباح ضخمة عبر احتكار إدخال السلع وبيعها بأسعار مبالغ فيها. هذه الأرباح لم تُستثمر، بل أعيد تدويرها داخل النظام المصرفي على شكل ودائع رقمية.

هذا النمط يعمق الفجوة الاقتصادية داخل المجتمع، حيث تتراكم الثروة لدى أقلية ضيقة، بينما تتآكل القدرة المعيشية للغالبية. وهو نمط لا ينتج نمواً، بل يرسخ اقتصاد الريع والوساطة والاحتكار.

غزة والاقتصاد الرقمي القسري

التحول شبه الكامل إلى الاقتصاد الرقمي في غزة لم يكن خياراً تحديثياً، بل استجابة اضطرارية لانهيار النظام المصرفي التقليدي. ورغم بعض الآثار الإيجابية المحدودة، مثل تقليص بعض أشكال التمويل غير المشروع، فإن هذا التحول جرى في بيئة غير مهيأة رقمياً ولا اجتماعياً.

اقتصاد رقمي بلا نقد، وبلا حماية اجتماعية، وبلا استقرار، لا يمكن اعتباره مساراً تنموياً، بل مرحلة انتقالية قسرية فرضتها الحرب، وقد تترك آثاراً طويلة الأمد على السلوك المالي والثقة بالنظام الاقتصادي.

ما يجري في غزة ليس ازدهاراً مالياً مؤجلاً، بل صورة صارخة لاقتصاد معلّق بين السيولة والشلل. تضخم الودائع لا يعكس قوة، بل يكشف عن انسداد كامل في الدورة الاقتصادية، حيث المال موجود لكنه عاجز عن الحركة.

من دون استقرار أمني، وإعادة بناء مصرفية حقيقية، وفتح قنوات نقدية وتجارية طبيعية، ستبقى الأرقام الكبيرة مجرد وهم محاسبي، فيما يستمر الواقع المعيشي في التدهور. اقتصاد غزة اليوم لا يعاني نقص المال، بل غياب الاقتصاد نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى