الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

الأسواق تتكيّف على الحافة: حرب الرسوم تعيد رسم خريطة التجارة العالمية

الاقتصاد العالمي | بقش

يبدو أن الاقتصاد العالمي يعيش لحظة فارقة بين المرونة والتعب، فبعد تسعة أشهر من رئاسة دونالد ترامب الثانية، أظهر الاقتصاد العالمي قدرة غير متوقعة على الصمود أمام سلسلة من الصدمات السياسية والتجارية. ومع ذلك، لم يستطع مسؤولو المالية الدوليون إخفاء شعورهم بالإرهاق من حالة عدم اليقين المستمرة التي تُلقي بظلالها على المستقبل القريب.

وفي الاجتماعات الأولى لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أبريل الماضي، كان الخوف من تعريفات ترامب الجمركية، التي أعلنها بمناسبة ما سماه “يوم التحرير”، واضحاً في أروقة النقاش وفق مراجعة بقش، لكن في اجتماعات أكتوبر التي اختُتمت لتوّها، تغيّر المزاج العام من القلق إلى الحذر، ومن الصدمة إلى محاولة التكيّف مع واقعٍ سياسي واقتصادي لم يستقر بعد.

هذا المزاج المتقلب يعكس حالة عالمية جديدة يمكن وصفها بـ”الوضع الطبيعي الجديد”، حيث لم تعد الصدمات حدثاً استثنائياً، بل جزءاً من إيقاع الاقتصاد الدولي. وبينما يشعر صانعو السياسات بالإنهاك من إدارة هذه التقلبات، يزداد إدراكهم أن العالم يعيش مرحلة انتقالية تعيد رسم خريطة العولمة ذاتها.

ملفات تناولتها الاجتماعات

أظهرت الاجتماعات التي تابع بقش مجرياتها أنّ الاقتصاد العالمي ما يزال يتمتع بمرونة نسبية، إلا أن التوقعات تشير إلى تباطؤ تدريجي في النمو، حيث من المتوقع أن ينخفض معدل النمو العالمي من 3.3% في 2024 إلى 3.1% بحلول 2026، ويعود هذا التباطؤ إلى عوامل عدة أبرزها حالة عدم اليقين في السياسات التجارية، والتوترات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى اضطرابات محتملة في سلاسل التوريد.

ورغم بعض الانفراجات مثل تأجيل الرسوم الجمركية الأمريكية على سلع معينة، إلا أن التهديدات الجديدة، بما فيها التهديد بزيادة الرسوم بنسبة 100% على الواردات الصينية، قد تؤثر سلباً على النمو، وقد تخفضه بمقدار 0.3 نقطة مئوية إذا تحققت السيناريوهات الأسوأ.

وتصدَّر ملف الديون السيادية جدول أعمال الاجتماعات، إذ حذر وزير المالية السعودي من أن الدين الحكومي العالمي قد يصل إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2029، مع مخاطر كبيرة تهدد الدول الهشة، خصوصاً في قارة أفريقيا، ورأى ضرورة إعادة هيكلة الديون بطريقة منظمة، ضمن إطار مجموعة العشرين، مع التركيز على الالتزام بسداد المستحقات واستثمار الموارد بشكل منتج.

تصعيد مستمر وتبدّل في موازين الثقة

أكدت تطورات الأسابيع الأخيرة أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين تجاوز التوقعات. فحين رد ترامب على ضوابط التصدير الصينية الجديدة على المعادن الأرضية النادرة بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الصادرات الصينية إلى أمريكا، بدا واضحاً أن الحرب التجارية لم تفقد زخمها.

هذا التصعيد ألقى بظلاله على اجتماعات واشنطن الأخيرة، حيث تحولت نقاشات صندوق النقد والبنك الدوليين حسب اطلاع بقش إلى محاور حول مستقبل النظام التجاري العالمي، ومدى قدرة الدول على العمل في ظل بيئة اقتصادية متوترة ومفتوحة على المجهول.

قالت بيتي ديسياتات، نائبة محافظ بنك تايلاند، إن الأشهر الأخيرة كانت “مرهقة للغاية” لصنّاع السياسات، مشيرة إلى صعوبة فهم الوضع الاقتصادي والتواصل مع الجمهور بشأنه. هذا التصريح يعكس المزاج العام بين الحضور الذين وصفوا التجربة بأنها اختبار لقدرة الدول على التكيّف أكثر مما هي أزمة آنية.

أما أحد أعضاء الوفد الياباني، فاختصر الموقف بالقول إن الاقتصاد العالمي أظهر مرونة تفوق التوقعات، لكن الخطر الحقيقي يكمن في تعدد أشكال عدم اليقين. فكلّ دولة تواجه اليوم مزيجاً خاصاً من المخاطر، سواء من الرسوم الجمركية أو من اضطراب سلاسل التوريد أو من التحولات السياسية في الاقتصادات الكبرى.

علاقات جديدة تتشكل خارج المدار الأمريكي–الصيني

رغم حدّة التوترات، رأت كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، أن ما يحدث لا يخلو من جانب إيجابي. فقد لاحظت خلال الاجتماعات نصف السنوية “قدراً غير مسبوق من المشاركة البناءة”، مرجعة ذلك إلى إدراك الدول أن التعاون الدولي لم يعد أمراً مفروغاً منه كما في السابق. وقالت إن كثيراً من الدول باتت تعتبر التعاون “مجهوداً يجب الحفاظ عليه لا امتيازاً مضموناً”.

أما نجوزي أوكونجو إيويالا، رئيسة منظمة التجارة العالمية، فاعتبرت وفق قراءة بقش أن تشكل ترتيبات تجارية جديدة خارج مدار الولايات المتحدة والصين يمثل تطوراً لافتاً. فقد باتت العديد من الدول تسعى إلى توسيع علاقاتها الإقليمية والثنائية كوسيلة لحماية مصالحها في ظل تصاعد التوتر العالمي.

وأكدت وزيرة المالية النيوزيلندية نيكولا ويليس أن هذا الاتجاه سيكتسب زخماً أكبر في المرحلة المقبلة، مشيرة إلى أن الاتحاد الأوروبي نفسه بات يتطلع للانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ التي تضم 11 دولة. وأضافت أن شركاء نيوزيلندا التجاريين حريصون على توسيع العلاقات بدلاً من تقليصها.

وفي السياق ذاته، رأت وزيرة التخطيط المصرية رانيا المشاط أن زيادة التعاون الإقليمي ليست مجرد استجابة مؤقتة، بل “نتيجة طبيعية للتطورات العالمية” التي فرضت على الدول البحث عن بدائل تكاملية جديدة لضمان الاستقرار.

ضغوط مالية ومخاطر تتسع مع غياب الإصلاح

أبرزت المناقشات أن الضغوط على الاقتصاد العالمي لم تعد محصورة في التوترات التجارية وحدها. فقد أشار المشاركون إلى استمرار الاختلالات في الأرصدة الخارجية وبلوغ مستويات الديون العالمية مستويات شبه قياسية، إلى جانب القلق المتزايد من توسع القطاع غير المصرفي وتأثير التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي على هيكل العمل والإنتاج.

وقال محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي إن المجتمع الدولي بحاجة إلى مناقشة صريحة تشبه ما كان ينبغي أن يحدث قبل أزمة الرهن العقاري العالمية في 2008. وأكد أن “الشفافية أمر بالغ الأهمية في عالمٍ غامض تزداد فيه الروابط بين القطاع المصرفي والتأمين والتمويل الخاص”، محذراً من أن بعض الأحداث الجارية حالياً قد تكون “إنذاراً مبكراً” لأزمة مالية جديدة.

من جانبها، حذّرت رئيسة الصندوق كريستالينا جورجيفا من “التقييمات المبالغ فيها” للأسواق، موضحة أن صندوق النقد الدولي يرى أن الأسواق أصبحت “مرتاحة أكثر من اللازم” في مواجهة مخاطر الحرب التجارية والتوترات الجيوسياسية والعجز الحكومي الكبير حسب تتبُّع بقش لتصريحاتها. وهذه الراحة المفرطة، على حد تعبيرها، قد تؤدي إلى “تصحيح غير منظم” في الأسواق العالمية إذا استمر تجاهل المؤشرات التحذيرية.

وفي المقابل، شددت نجوزي أوكونجو إيويالا على ضرورة إصلاح منظمة التجارة العالمية وتوسيع مفهوم العولمة ليصبح أكثر عدالة. وقالت: “نحن بحاجة إلى إعادة تصور العولمة. لا يمكننا الاستمرار كما كنا في الماضي”، داعيةً إلى تنويع التجارة وتعزيز استفادة الدول التي تخلفت عن ركب النمو العالمي.

تغير المناخ… التهديد الذي يتجاوز الحدود

لم تقتصر المخاوف على الجوانب الاقتصادية فقط، بل امتدت إلى البعد البيئي. فقد اتفق المسؤولون على أن تغير المناخ يشكل الخطر الأكبر الذي يهدد استقرار الاقتصاد العالمي، رغم إنكار ترامب في الأمم المتحدة ووصفه القضية بأنها “عملية احتيال”. هذا التعارض بين المواقف السياسية والواقع العلمي أثار نقاشاً واسعاً خلال اجتماع اللجنة التوجيهية لصندوق النقد يوم الجمعة الماضي.

وقال محافظ البنك المركزي في جنوب أفريقيا ليستيا كغانياجو إن مخاطر المناخ لم تعد قضية بيئية فحسب، بل باتت “قضية اقتصادية كلية” تؤثر على التأمين والاستقرار المالي والبنية الأساسية في الدول كافة. وأضاف خلال مؤتمر مجموعة الثلاثين أن العالم قد يختلف في التجارة، لكنّه لا يستطيع الانسحاب من المناخ، لأن “انسحاب أي طرف يعني ارتفاع حرارة الكوكب بأكمله ومعاناة الجميع”.

هذا الإجماع الواسع على خطورة المناخ يعكس وعياً متزايداً بأن السياسات المالية والتجارية لا يمكن فصلها بعد الآن عن سياسات البيئة والطاقة، وأن أي خطة إصلاح اقتصادي مستقبلي ستكون ناقصة ما لم تتعامل مع الكوكب باعتباره شريكاً في المعادلة لا مجرد متغير خارجي.

تُظهر نتائج اجتماعات واشنطن أن الاقتصاد العالمي يقف عند مفترق طرقٍ حقيقي، بين نظامٍ يسعى للحفاظ على التوازن عبر التعاون، وآخر يُعاد تشكيله بفعل النزاعات التجارية والمخاطر المناخية.

المرونة التي أبداها الاقتصاد الدولي حتى الآن تُخفي خلفها هشاشة هيكلية تُنذر بأن مرحلة “الوضع الطبيعي الجديد” قد تكون أكثر اضطراباً مما يبدو على السطح.

ويمكن القول إن الاقتصاد العالمي يمر بمنعطف حساس يجمع بين تحديات حقيقية وفرص واعدة، فالتحديات تتمثل في تباطؤ النمو وتفاقم الديون والتوترات التجارية العالمية، في حين تبرز الفرص عبر الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ورأس المال البشري وتفعيل التجارة البينية، بينما تتطلب الحلول الفعالة تعاوناً دولياً وإصلاحات مالية واستثمارية، وقيادة شجاعة لتجنب الانزلاق نحو أزمات أكبر وتحقيق نمو مستدام وشامل.

وفي حين يواصل القادة الدوليون الدعوة إلى إصلاحات وهيكلية وتعاون أكبر، تبدو التحديات أعقد من أن تُحلّ بخطابات التفاؤل وحدها، فالعالم اليوم أمام اختبار طويل المدى: هل يستطيع بناء نظام اقتصادي أكثر عدلاً وشفافية، أم سيظل عالقاً في دائرة الأزمات التي لا تنتهي؟

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش