الاقتصاد العالمي رهن اضطرابات أمريكا.. بين تبعية الدولار وسياسات الفيدرالي الأمريكي

الاقتصاد العالمي | بقش
لا يزال الاقتصاد العالمي رهيناً للسياسات النقدية الأمريكية، إذ تشكل الولايات المتحدة بنسبة 26% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتسيطر عملتها على أغلب التسويات المالية والتجارية الدولية، وتتيح هذه الهيمنة للسياسات النقدية الأمريكية، وخاصة قرارات الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة، أن تؤثر مباشرة على النمو الاقتصادي، التضخم، وأسعار العملات والسلع حول العالم.
ويعكس خفضُ سعر الفائدة مؤخراً بنسبة 0.25%، مع توقعات بمزيد من الخفض، تأثير السياسة الأمريكية على الأسواق العالمية، فارتفاع أسعار الذهب والعملات المشفرة، وتقليد الاقتصادات المرتبطة بالدولار لسياسة الفيدرالي، كلها مؤشرات على ارتباط الأسواق العالمية ارتباطاً وثيقاً بسلوك البنك المركزي الأمريكي.
كما أن رفع سعر الفائدة سابقاً إلى نحو 5% بعد الحرب الروسية الأوكرانية تسبب في تشديد السياسات النقدية عالمياً، وأدى إلى ارتفاع التضخم في العديد من الاقتصادات، ما يوضح مدى تبعية العالم للدولار الأمريكي.
الهيمنة الدولارية كسلاح.. مخاطر وتحديات مستقبلية
يبرز في تصريحات رئيس الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، الحذر تجاه تخفيضات إضافية في الفائدة كما يطالب الرئيس ترامب، مشيراً إلى استمرار المخاطر مثل التضخم المرتفع وضعف سوق العمل، وأي توقف أو انعكاس في سياسات الفيدرالي يمكن أن يؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي واضطراب الأسواق، ما يؤكد هشاشة النظام المالي العالمي واعتماده على قرارات الولايات المتحدة.
ومع تغير موازين القوى الاقتصادية، يظهر جلياً أن الحاجة إلى عملة بديلة للتسويات الدولية لم تعد خياراً، بل ضرورة لتقليل المخاطر المرتبطة بالدولار.
مع ذلك، ترفض الولايات المتحدة هذا التحرك، مهددة بفرض رسوم جمركية على أي دولة تحاول الاستقلال عن الدولار، مما يعكس استخدام السياسة الاقتصادية كأداة ضغط سياسي على المستوى الدولي.
وسبق وهدد ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على السلع المستوردة من الدول التي تحاول استبدال الدولار بعملة أخرى في معاملات التجارة الدولية وفق متابعات مرصد بقش، كما تهدد واشنطن بعقوبات مالية وتقليص الوصول إلى النظام المصرفي الدولي، إذ تمتلك الولايات المتحدة القدرة على منع أي بنك أو دولة من الوصول إلى النظام المالي الدولي، خصوصاً شبكة التحويلات البنكية الدولية “سويفت”، أو تقييد التعامل بالدولار في القروض والمعاملات الدولية.
وهناك أمثلة لذلك، فقد تعرضت إيران وفنزويلا لعقوبات مالية جعلت استيراد أو تصدير النفط صعباً، ما دفعهما لمحاولة البحث عن عملات بديلة مثل اليورو أو العملات المحلية للمعاملات التجارية، كما صودرت احتياطيات أفغانستان النقدية بعد سيطرة حركة طالبان في 2021 على البلاد، وتبلغ تلك الاحتياطيات نحو 10 مليارات دولار، ما أثر مباشرة على إدارة الموارد المالية الأفغانية.
وعودةً إلى سياسات الفائدة الأمريكية، فإنها تؤثر على كل من الدول المقترضة والدول ذات الفوائض المالية، إذ يؤدي انخفاض الفائدة إلى تقليل عوائد الفوائض، بينما يضر ارتفاعها بالدول المقترضة، وقد حاولت الصين دخول سوق التمويل الدولي عبر قروض البنية التحتية، لكنها لم تقدم آلية بديلة شاملة، ما يترك الاقتصاد العالمي رهينًا لقرارات الفدرالي الأمريكي.
ومن أخطر نتائج الهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي استخدام الأدوات الاقتصادية في فرض أجندات سياسية، كما يظهر في العقوبات على دول مثل العراق وأفغانستان، أو الضغط على أوروبا لفرض رسوم على الصين والهند، وهذه الممارسات تقوض عدالة النظام الاقتصادي العالمي وتوضح كيف تتحول السياسات النقدية إلى أداة سياسية بحتة.
فرص للتخلص من الهيمنة الأمريكية
ثمة فرص للتخلص الجزئي من الهيمنة الأمريكية والدولار، رغم تعقيدات ذلك، فوفق تحليلات “بقش”، تُطرح عملات بديلة للدولار مثل اليورو الذي يُستخدم جزئياً في التجارة الدولية، لكنه يظل محدود التأثير بسبب حجم الاقتصاد الأمريكي (+29 تريليون دولار) مقابل حجم اقتصاد منطقة اليورو (12.7 تريليون دولار).
كما يُطرح اليوان الصيني كبديل محتمل للدولار، إذ تعمل الصين على تعميم عملتها في التجارة الدولية، خاصة في آسيا وأفريقيا، لكنها لم توفر آلية عالمية بديلة للدولار بعد.
وثمة عملات رقمية مركزية، حيث تخطط البنوك المركزية العالمية لعملات رقمية خاصة بها، يمكن أن تقلل الحاجة للدولار على المدى البعيد.
وهناك آلية “المقايضة الثنائية”، بلجوء بعض الدول إلى اتفاقيات تجارية ثنائية بالدولار أو بالعملة المحلية، لتجنب التعامل بالدولار مباشرة، مثل روسيا والصين في بعض عقود النفط والغاز. كما بدأت بعض الدول كالصين والهند والبرازيل بإنشاء مؤسسات مالية بديلة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لدعم تمويل مشاريع البنية التحتية، بعيداً عن الدولار.
رغم ذلك ثمة عوائق رئيسية للتخلص الكلي من الهيمنة الدولارية، أبرزها أن الدولار يسيطر على التجارة والاحتياطيات الدولية، فهناك حوالي 60% من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية بالدولار، وحوالي 80% من التجارة العالمية يتم تسويتها بالدولار، مما يجعل أي تحرك للابتعاد عنه محفوفاً بالمخاطر الاقتصادية.
كما يعتمد معظم البنوك الدولية والشركات الكبرى على الدولار للوصول إلى التمويل الدولي، إلا أنه على المدى المتوسط إلى طويل المدى يمكن تقليل الاعتماد تدريجياً، من خلال تنويع العملات في التجارة الدولية، وتعزيز التعاون المالي بين الدول الكبرى، وتبني العملات الرقمية للبنوك المركزية.
ويحتاج التخلص من الهيمنة الدولارية إلى تنسيق عالمي واسع، وتطوير بنية مالية بديلة، وتجاوز التهديدات الأمريكية، وهو مسار طويل تشير تحليلات إلى أنه قد يستغرق عقوداً قبل أن يكون ملموساً على مستوى عالمي، في حال عدم تحفيز التنسيق الدولي.
ويبقى الاقتصاد العالمي أسيراً لتقلبات السياسة النقدية الأمريكية، وهو ما يفرض ضغوطاً على الاقتصادات النامية والنامية على حد سواء، ولضمان استقرار مالي عالمي أكثر عدلاً، ثمة حاجة ملحة لإرساء نظام نقدي دولي جديد يحدد قواعد واضحة لسعر الصرف والفائدة والتضخم، ويطرح عملة بديلة للتسويات الدولية تعصم الاقتصاد العالمي من تبعات سياسات الفدرالي الأمريكي.
وحتى تحقيق ذلك، تظل دول العالم تدفع ثمن مشكلات اقتصادية ليست سبباً فيها، مع استمرار التبعية للدولار والسيطرة الأمريكية على التمويل العالمي.