البحر الأحمر يتحول إلى ساحة حرب إلكترونية… طواقم السفن تطلب الدعم مع تصاعد عمليات انتحال نظام “جي بي إس”

أخبار الشحن |بقش
بسبب الأوضاع الأمنية في البحر الأحمر، تواجه طواقم السفن أزمة تقنية أمنية متنامية، مع وصول عمليات التشويش والانتحال لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) إلى مستويات غير مسبوقة، مما يضع الملاحة البحرية في منطقة استراتيجية من العالم تحت خطر حقيقي.
لم تعد الهجمات في البحر الأحمر محصورة بالقصف المباشر أو اعتراض السفن، بل تطورت لتشمل مجال الحرب الإلكترونية، حيث سجلت شركات اتصالات بحرية، أبرزها مارلينك Marlink، ارتفاعاً هائلاً في شكاوى السفن بشأن اختفاء أو تزييف بيانات الموقع والملاحة والتوقيت.
“وصلنا إلى نقطة خطيرة”، هكذا وصف “توري مورتن أولسن”، رئيس قسم الملاحة البحرية في شركة “مارلينك”، الموقف المتدهور في البحر الأحمر، وفق اطلاع بقش على ما نشرته الشركة. وأضاف أولسن أن طواقم السفن باتت عاجزة في بعض الأحيان عن تحديد مواقعها بدقة، ما يؤدي إلى أوضاع ملاحية شديدة الخطورة، خصوصاً في ممرات بحرية مكتظة وذات حساسية عسكرية وسياسية.
وتشير التقارير التي يتتبعها بقش إلى حالات متعددة لسفن أظهرت أنظمتها أنها تسير بسرعات تتجاوز سرعة الصوت، أو أنها راسية على اليابسة، أو تدور حول مواقع معينة بشكل مستمر، وهي كلها إشارات على وجود محاولات نشطة لانتحال بيانات GPS.
وحسب مارلينك، فقد شهدت الشركة قفزة غير مسبوقة في طلبات الدعم من طواقم السفن. ففي يوليو 2024، كان مركز خدمة العملاء يتلقى بلاغاً واحداً كل أسبوعين حول مشاكل GPS، أما بحلول منتصف يوليو 2025، فقد تجاوز عدد البلاغات 150 بلاغاً في يوم واحد.
الخطر يتجاوز الملاحة… ويهدد أنظمة الاستغاثة
إضافة إلى تعطيل الملاحة، يهدد هذا النوع من الهجمات نظم السلامة الدولية، فـ”نظام السلامة البحرية العالمي” المعروف اختصاراً بـ(GMDSS)، الذي يُستخدم لإرسال إشارات الاستغاثة، يعتمد هو الآخر على إشارات GPS، وبمجرد التشويش أو الانتحال، تفقد السفن القدرة على إرسال إشارات الطوارئ بشكل فعال.
الأمر لا يقف عند هذه النقطة، إذ إن غالبية أنظمة الاتصالات الفضائية، بما فيها أقمار LEO مثل “ستارلينك”، تعتمد على GPS لمزامنة المواقع والتوقيت، وهذا يجعل كل من نظام Inmarsat-C وبيانات GMDSS عرضة هي الأخرى للتشويش والانتحال.
توضح مارلينك أن أحد مصادر الضعف الأساسية يكمن في أن إشارات الأقمار الصناعية تصبح ضعيفة للغاية عندما تصل إلى سطح الأرض، ما يجعل من السهل استبدالها بإشارات محلية مضللة تُرسل من معدات إلكترونية على متن زوارق صغيرة أو حتى من الشاطئ.
حلول طارئة ومراقبة ذكية
في مواجهة هذه الأزمة، وضعت مارلينك عدة إجراءات مؤقتة لمساعدة السفن التي تدخل المناطق عالية الخطورة، منها الاعتماد على أنظمة الملاحة متعددة المصدر، مثل غلوناس (GLONASS) الروسي، وبيدو (Beidou) الصيني، وجاليليو (Galileo) الأوروبي، لمقارنة إشارات GPS المشكوك فيها.
كما قدم مركز التميز التابع لمارلينك في محطة Eik للموانئ إرشادات للملاحين حول كيفية التحقق اليدوي من الموقع الجغرافي باستخدام بيانات متعددة المصدر.
من الناحية التقنية، تعمل فرق الهندسة البحرية التابعة للشركة على تطوير أدوات تحليل إشارات متقدمة، قادرة على تمييز مصدر الإشارة، سواء أكانت من الفضاء أو من الأرض وفق قراءة بقش، ما يمنح الطاقم قدرة أكبر على تحديد الإشارات الحقيقية من المزيفة.
واحدة من الحلول المقترحة أيضاً تتمثل في تقليل عمليات تبديل الأقمار الصناعية واستخدام الحزم الضرورية فقط، لتقليل فرص التداخل والتشويش، إلى جانب تعزيز أنظمة الفحص الذاتي للسرعة والموقع، وهي إجراءات يمكن أن تنقذ الأرواح في حالة حدوث تعطل شامل في الأنظمة.
تحذير من “الرد الخاطئ”: إيقاف الأنظمة ليس حلاً
تشير توصيات مارلينك التي طالعها بقش إلى أن رد الفعل التلقائي بإيقاف أنظمة الملاحة بالكامل في حال الاشتباه بانتحال إشارات GPS قد لا يكون الخيار الأفضل، لأن الإشارات المزيفة بالفعل “تغلق” قدرة السفينة على الاتصال بالأقمار الحقيقية، وفي بعض الأحيان، يكون الخيار الأفضل هو البقاء على النظام وتحليل التناقضات بدقة قبل اتخاذ أي خطوة.
كما تحذر الشركة من أن الهوائيات الذكية في السفن تسعى تلقائياً إلى الاتصال بأقوى إشارة متوفرة، مما يعني أنها قد ترتبط بسهولة بإشارة مزيفة إذا كانت هذه الأخيرة أقوى من الإشارة الأصلية.
هذه التطورات تأتي في وقت يتزايد فيه النشاط العسكري والسياسي في البحر الأحمر، خصوصاً في ظل استمرار الحظر البحري المفروض على الملاحة الإسرائيلية بسبب استمرار جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وتكثيف الهجمات على السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل بأي شكل من الأشكال.
وتُظهر بيانات دولية أن المنطقة تشهد واحدة من أعلى نسب الهجمات البحرية الإلكترونية على مستوى العالم، إلى جانب خليج عدن وبحر الصين الجنوبي.
تسلط هذه التطورات الضوء على تحول البحر الأحمر إلى مسرح لحرب هجينة، تشمل القوة النارية والتكتيك البحري، إلى جانب أدوات الحرب السيبرانية المتقدمة.
المخاطر المتصاعدة في البحر الأحمر لا تُهدد فقط السفن المارة عبر قناة السويس، بل تمتد آثارها إلى حركة التجارة العالمية بأكملها، خصوصاً أن 12% من تجارة العالم تمر عبر هذا الممر الحيوي.
ويخشى محللون في قطاع التأمين البحري من أن يؤدي استمرار انتحال GPS إلى ارتفاع كبير في أقساط التأمين المرتفعة أصلاً وفق اطلاع بقش، وانسحاب بعض الخطوط الملاحية من المرور عبر المنطقة، ما سيزيد من كلفة الشحن عالمياً.
في ظل غياب إطار دولي موحد لمواجهة هذه التهديدات، تبدو شركات التكنولوجيا البحرية في سباق مع الزمن لتطوير أنظمة أكثر ذكاءً واستقلالية في تحليل وتصفية البيانات الجغرافية.
حتى ذلك الحين، تظل طواقم السفن في البحر الأحمر تقود سفنها وسط عواصف إلكترونية غير مرئية، وتحتاج إلى دعم أكبر وتنسيق دولي عاجل قبل أن تتحول الحرب الإلكترونية إلى كارثة بحرية عالمية.