الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

التوتر بين بكين وطوكيو.. مصالح ترامب التجارية تمنع أمريكا من دعم الحليف الياباني

الاقتصاد العالمي | بقش

في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في الجغرافيا السياسية لشرق آسيا، تجد اليابان نفسها في قلب مواجهة مفتوحة مع الصين، دون أن تحظى بالدعم العلني الكافي من أقرب حلفائها وأكبرهم: الولايات المتحدة.

الصمت الأمريكي، أو الصوت الخافت الأمريكي، يتزامن مع تصعيد صيني غير مسبوق تجاه تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية سنايي تاكايتشي بشأن تايوان، في وقتٍ تتشابك فيه المصالح التجارية الأمريكية الصينية مع الحسابات الأمنية الأمريكية اليابانية، لتخلق معضلة استراتيجية تبدو فيها واشنطن عاجزة عن التوفيق بين شريكيها المتخاصمين.

تبدأ القصة من تايوان، وتنتهي عند عمق التحالف الأمريكي-الياباني مروراً بسباق النفوذ في المحيطين الهندي والهادئ، وطموحات الصين، وتوازنات إدارة ترامب، والتجاذبات داخل المؤسسات الأمريكية نفسها.

جذور الأزمة.. كلمة أغضبت بكين

كانت الشرارة تصريحاً صادماً لبكين أطلقته رئيسة الوزراء اليابانية سنايي تاكايتشي، حين قالت إن أي هجوم صيني على تايوان سيكون “تهديداً وجودياً” لليابان ويبرر نشر قواتها المسلحة.

هذا التصريح كان كفيلاً بإشعال غضب الصين، التي سارعت إلى مهاجمة تاكايتشي رسمياً، ملوّحةً بإجراءات اقتصادية انتقامية، ومحذّرة مواطنيها من السفر إلى اليابان.

رد الفعل الصيني لم يتوقف عند حدود البيانات، ففي خطوة وُصفت في طوكيو بأنها “استفزازية وخطيرة” وجّهت طائرات حربية صينية راداراتها نحو مقاتلات يابانية جنوب شرقي أوكيناوا، كما أعلن وزير الدفاع شينجيرو كويزومي، واصفاً الحادث بالمؤسف للغاية.

وكانت الرسالة الصينية أن بكين لن تمرر أي إشارة، ولو كانت لفظية، تدعم استقلال تايوان أو تلمّح إلى تدخل عسكري ياباني محتمل.

لكن الأزمة لم تكن مع بكين وحدها، بل مع واشنطن أيضاً. فمع تصاعد الهجوم الصيني، انتظرت طوكيو موقفاً أمريكياً قوياً، ليس فقط لطمأنة اليابان، بل لإرسال إشارة استراتيجية للصين، إلا أن ما حدث كان العكس.

سفير اليابان في واشنطن، شيغيه أو يامادا، توجه سراً لإدارة ترامب بطلب دعم علني أكبر، وهو طلب عَكَس عمقَ الانزعاج الياباني من برود ردود واشنطن، لكن الأخيرة اكتفت بتصريح مقتضب من سفيرها في طوكيو جورج غلاس، قال فيه إن “ترامب وفريقه يدعمونها” (اليابان). لكن لم يصدر موقف رئاسي، ولم يظهر كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية في الساحة، كما لو أن الأمر لا يعنيهم.

مع مرور الوقت، شعرت طوكيو بخيبة أمل كبيرة كما توحي المؤشرات التي يتتبَّعها بقش، فالأزمة تتصاعد، والصين تتحرك، بينما اليابان تواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، وسط صمت أمريكي شبه مُطبِق.

مسؤول ياباني لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية: “لا نعتقد أن واشنطن تتراجع عن التزاماتها، لكن غياب الدعم العلني محبط للغاية”.

لماذا الصمت الأمريكي؟

إدارة ترامب أمرت فريقها بعدم اتخاذ خطوات قد تهدد الاتفاق التجاري الذي أبرمه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في أكتوبر الماضي، وبمعنى آخر، فإن مصلحة ترامب التجارية مع الصين تتفوق على مصالح حلفائه في طوكيو، وهو توجه يؤكد ما قاله مسؤولون أمريكيون ويابانيون سابقون، حول أن البيت الأبيض لا يريد استفزاز بكين.

ترامب نفسه لا يرى في الأزمة فرصة سياسية كما يراها في قضايا أخرى، حتى أن بعض المسؤولين الأمريكيين وعدوا طوكيو بصدور تصريح قوي من واشنطن، لكن ما وصل في النهاية كان منشوراً باهتاً على منصة X من نائب المتحدث باسم الخارجية.

كريستوفر جونستون، المسؤول السابق عن ملف اليابان في البيت الأبيض، قال وفق اطلاع بقش: “كان يجب على واشنطن أن ترحب بتصريحات تاكايتشي، لكن ما حدث هو صمت شبه كامل”.

والمفارقة أن إلبريدج كولبي، أحد أبرز مهندسي استراتيجية مواجهة الصين، كان قد ضغط سابقاً على طوكيو لتوضيح دورها في حال اندلاع حرب حول تايوان، وحين فعلت اليابان ذلك، لم تحصل على الدعم الذي طُلب منها أصلاً.

ذروة الأزمة.. تنصُّل ترامب

الأزمة بلغت ذروتها حين نشر القنصل الصيني العام في أوساكا منشوراً خطيراً على منصات التواصل، قال فيه: “إذا مدّت رقبة قذرة نفسها دون دعوة، سنقطعها فوراً بلا تردد”، في إشارة إلى تاكايتشي (رئيسة وزراء اليابان).

المنشور حُذف لاحقاً، لكنه انتشر كالنار في الهشيم. ومع ذلك، لم يصدر عن ترامب أي بيان أو دعم علني، بل إنه عندما سُئل عن التهديد أجاب: “الكثير من حلفائنا ليسوا أصدقاءنا”.

راندي شرايفر، رئيس معهد أمن المحيطَين، قال إن من المناسب أن يخرج البيت الأبيض بموقف داعم لتاكايتشي، خصوصاً بعد التهديد بقتلها، أما نيكولاس بيرنز، السفير الأمريكي لدى الصين سابقاً، فقال إن اليابان هي الحليف الذي لا غنى عنه، وتستحق رئيسة الوزراء دعماً علنياً كاملاً.

لكن الأهم هو تقرير وول ستريت جورنال الذي تحدث عن مكالمة بين ترامب وتاكايتشي، طالبها فيها بـ”عدم استفزاز الصين”. الحكومة اليابانية نفت التقرير الذي اطلع عليه بقش، لكن مصادر أمريكية ويابانية أكدت أن ترامب نصحها بعدم التصعيد.

معادلة مركّبة في المحيط الهادئ

حسب المعطيات التي يتابعها بقش، تختبر الصين حدود القوة اليابانية عبر الضغط العسكري والتهديد الاقتصادي والهجوم الدبلوماسي، بينما تسعى اليابان لدور أكبر لكن وحدها دون دعم أمريكي واضح. وقد حاولت تاكايتشي تقديم اليابان كدولة قادرة على دعم تايوان عسكرياً، لكن هذا الدور يحتاج غطاءً أمريكياً لم يحصل.

أما إدارة ترامب فتمسك العصا من المنتصف، فهي لا تريد خسارة اليابان ولا إغضاب الصين ولا تقويض الاتفاق التجاري مع بكين الذي يعد أهم إنجازاتها الاقتصادية.

وتعيش واشنطن أزمة استراتيجية داخلية، فالبنتاغون والخارجية والبيت الأبيض ليسوا على الخط نفسه، وهو ما يظهر في التردد والبطء والتصريحات المتناقضة.

ويبدو أن أي تصريح ياباني حول تايوان يعني استفزاز الصين وإحراج الولايات المتحدة ووتوسيع التوتر في المنطقة الأكثر قابلية للاشتعال في العالم.

ويكشف المشهد الحالي لحظة نادرة يجد فيها حليف تاريخي لواشنطن –اليابان– نفسه بلا غطاء علني في مواجهة ضغط صيني مباشر، ومن الواضح أن طوكيو تشعر بأن إدارة ترامب تضع مصالحها التجارية مع بكين فوق الاعتبارات الأمنية، وهو أمر يثير قلق طوكيو وتايبيه على حد سواء.

وفي المقابل، تكشف الصين رغبة متزايدة في اختبار أعصاب اليابان، فيما تبدو واشنطن منشغلة بتوازنات داخلية وخارجية تجعلها أقل حضوراً في اللحظة التي تتوقعها طوكيو منها أكثر من أي وقت مضى.

زر الذهاب إلى الأعلى