الحرب التجارية الأمريكية تعيد رسم خريطة التحالفات: تقارب برازيلي–صيني بحثاً عن أسواق بديلة

الاقتصاد العالمي | بقش
في ظل اشتداد الحرب التجارية التي أشعلها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بدأت ملامح خريطة جديدة تتشكل في الاقتصاد العالمي، مع تزايد التقارب بين بكين وبرازيليا في محاولة لتخفيف أثر السياسات الأمريكية الحمائية.
هذا التقارب الذي يصفه مراقبون بأنه “إعادة تموضع استراتيجي”، يأتي بعد أن وجدت كلٌّ من الصين والبرازيل نفسيهما في قلب الصراع التجاري، إذ تضررت صادراتهما ورسومهما الجمركية بشكل مباشر، ما دفعهما إلى البحث عن شركاء بدائل وأسواق جديدة قادرة على استيعاب الفائض الإنتاجي.
وتسعى البرازيل، أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، بالتعاون مع الصين والهند، إلى توسيع حجم التبادل التجاري ليصل إلى ثلاثة أضعاف مستواه الحالي البالغ نحو 12 مليار دولار، في خطوة تهدف إلى تقليل اعتمادها على السوق الأمريكية. هذا الحراك الاقتصادي الجديد يمثل تحدياً غير مسبوق للنفوذ التجاري الأمريكي في الأسواق الناشئة.
سياسات ترمب تدفع الاقتصادات الناشئة نحو بعضها
منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض، تبنت واشنطن نهجاً أكثر تشدداً تجاه شركائها التجاريين، بفرض رسوم جمركية وصلت إلى 50% على العديد من الواردات القادمة من البرازيل والهند، في محاولة لإعادة التوازن إلى الميزان التجاري الأمريكي. إلا أن هذه السياسات جاءت بنتائج عكسية، إذ دفعت تلك الدول إلى تعزيز تعاونها البيني وتقليل انكشافها على الاقتصاد الأمريكي.
يقول الخبير الاقتصادي تياغو دي أراغاو من شركة “آركو إنترناشونال” في واشنطن إن “سياسات ترمب تُحدث إعادة تنظيم شاملة في خريطة التجارة العالمية، وتدفع الدول إلى بناء شبكات اقتصادية جديدة خشية أن يتحول هذا التوجه إلى سمة دائمة في السياسة الأمريكية”.
ويرى محللون أن التحركات البرازيلية الأخيرة نحو آسيا، إلى جانب الانفتاح على الهند والصين، تمثل رداً اقتصادياً وسياسياً منظماً على نهج واشنطن العدائي، خاصة بعد أن أدت الرسوم الجمركية إلى تراجع الطلب الأمريكي على منتجات أساسية مثل اللحوم والصلب.
برازيليا تتحرك لتوسيع شراكاتها
يتزعم نائب الرئيس البرازيلي جيرالدو ألكمين وفداً رفيعاً يضم مسؤولين من شركات كبرى مثل “بتروبراس” و“فالي” و“بي آر إف”، يزور الهند هذا الأسبوع لمناقشة فرص جديدة في قطاعات الطاقة والزراعة والوقود الحيوي.
وتهدف الزيارة إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري ثلاث مرات خلال الأعوام القليلة المقبلة، مع التركيز على مجالات القهوة والإيثانول والتكنولوجيا الزراعية، إضافة إلى توسيع اتفاق التجارة التفضيلية بين “ميركوسور” والهند الموقّع عام 2004.
وبحسب مسؤول برازيلي، فإن بلاده تتطلع إلى تنويع أسواقها التصديرية بعد أن كانت 12% من صادراتها متجهة إلى الولايات المتحدة العام الماضي. وتعمل الحكومة على إعادة توجيه جزء كبير من تلك الصادرات نحو الصين والأرجنتين والهند، مستفيدة من عضويتها المشتركة في مجموعة “بريكس”.
الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي رفع شعار “الاستقلال الاقتصادي عن واشنطن”، يسعى إلى جعل بلاده محوراً لتجارة الجنوب العالمي، عبر الانفتاح على دول جنوب شرق آسيا وتركيا وماليزيا، وتأسيس شبكة تبادل جديدة تتيح لبلاده هامش مناورة أوسع في ظل التحولات الجيوسياسية.
الهند بين واشنطن وبكين: سياسة التوازن الصعب
على الجانب الآخر، تجد الهند نفسها أمام معادلة معقدة: فهي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، التي تُعد أكبر وجهة لصادراتها بنسبة 20%، لكنها في الوقت ذاته عضو مؤسس في “بريكس” وتسعى إلى تعزيز مكانتها كقوة آسيوية مستقلة.
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يحاول الموازنة بين التقارب مع ترمب والحفاظ على تحالفاته مع الصين والبرازيل. ومع ذلك، فإن تصريحات ترمب الأخيرة التي ادعى فيها أنه “حلّ النزاع بين الهند وباكستان” أثارت استياء مودي وأعادت برود العلاقات بين الجانبين.
ورغم اللقاءات الودية بين ترمب ومودي في الأسابيع الأخيرة، فإن استمرار الرسوم الأمريكية بنسبة 25% على السلع الهندية بسبب واردات الوقود الروسي يبقي التوتر قائماً، ويدفع نيودلهي إلى تعزيز تعاونها مع بكين وبرازيليا في ملفات التجارة والطاقة.
ويقول خورخي فيانا، رئيس وكالة “أبيكس برازيل”، إن “الهند تُعد السوق الأكثر قدرة على تعويض البرازيل عن خسائرها في أميركا، سواء بسبب الرسوم أو رغمها”، مؤكداً أن التحالف الاقتصادي بين البلدين “لم يعد خياراً دبلوماسياً، بل ضرورة استراتيجية”.
انعكاسات الرسوم الجمركية على الاقتصادين البرازيلي والهندي
تُشير البيانات إلى أن الرسوم الأمريكية الأخيرة قد تُخفض نمو الاقتصادين البرازيلي والهندي بنحو نقطة مئوية كاملة خلال عام 2025، نتيجة تقلص الصادرات وزيادة كلفة الاستيراد.
كما أن إعادة توجيه سلاسل الإمداد تتطلب استثمارات ضخمة في النقل والتخزين والبنية التحتية اللوجستية، ما يشكل عبئاً مالياً إضافياً على الموازنات العامة.
في المقابل، يرى خبراء أن هذه الأزمة قد تخلق فرصاً جديدة لتحفيز التصنيع المحلي في الدولتين، إذ ستضطر الشركات إلى تطوير بدائل إنتاجية لتقليل الاعتماد على الواردات الأمريكية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والطاقة المتجددة.
أما بالنسبة للصين، فهي المستفيد غير المباشر من هذه التحولات، إذ تكتسب نفوذاً متزايداً في أميركا اللاتينية من خلال الاستثمارات في الزراعة والطاقة والبنية التحتية، في الوقت الذي تنشغل فيه واشنطن بإدارة نزاعاتها الجمركية.
تحليل اقتصادي: “بريكس” تتعزز… وواشنطن تخسر نفوذها التجاري
تُظهر التطورات الأخيرة أن مجموعة “بريكس” تتحول تدريجياً إلى مظلة اقتصادية مضادة للهيمنة الأمريكية، مع تنامي التنسيق بين أعضائها لمواجهة السياسات الحمائية الغربية.
ففي حين كانت الولايات المتحدة تُهيمن على أكثر من 30% من التجارة الخارجية للبرازيل في العقد الماضي، تراجعت النسبة إلى أقل من 18% هذا العام، مقابل ارتفاع حصة الصين والهند إلى ما يقارب 25%.
هذا التحول يعكس بداية نظام تجاري متعدد الأقطاب، تتراجع فيه قدرة واشنطن على فرض شروطها الاقتصادية، بينما تتقدم الدول النامية نحو بناء منظومة تبادل جديدة قائمة على المصالح المتبادلة لا التحالفات السياسية.
تدل المؤشرات على أن الحرب التجارية التي بدأها ترمب لم تعد مجرد نزاع اقتصادي، بل تحولت إلى أداة لإعادة تشكيل العلاقات الدولية.
فكلما شددت واشنطن قبضتها على شركائها، زادت فرص نشوء تحالفات بديلة بين الاقتصادات الصاعدة، وعلى رأسها الصين والبرازيل والهند.
وإذا استمر هذا المسار، فقد يجد العالم نفسه أمام خريطة تجارية جديدة، تُصبح فيها الموانئ الآسيوية واللاتينية مراكز ثقل بديلة عن نيويورك وواشنطن، بينما تتراجع العولمة الأمريكية لصالح عولمة متعددة المراكز تقودها دول الجنوب.