
تقارير | بقش
تزداد شهية الشركات الكبرى في العالم لخفض التكاليف كلما نمت قدرات الذكاء الاصطناعي، ومعها تتسع قائمة الضحايا من الموظفين. لكن وراء كل إعلان عن “إعادة هيكلة ذكية” تختبئ رواية أقل أناقة: شركات تستخدم الذكاء الاصطناعي كمظلّة لغسل قرارات تسريحها الجماعي.
من “أكسنتشر” إلى “لوفتهانزا” و”سيلزفورس” و”كلارنا” و”دولينغو”، انتشرت العدوى بسرعة: تكنولوجيا جديدة، مبرر جديد، وعدد قديم من العاطلين. الذكاء الاصطناعي صار المتهم المفضل لدى مجالس الإدارة — أداة تُنتج البيانات وتتحمّل اللوم في الوقت ذاته.
بدأت الموجة بشركة “أكسنتشر” التي قررت الاستغناء عن من لم “يتطوروا بالسرعة المطلوبة” في مجال الذكاء الاصطناعي. ثم تبعتها “لوفتهانزا” بإعلان التخلص من 4000 وظيفة بحلول 2030 بحجة تحسين الكفاءة الرقمية.
وفي “سيلزفورس”، كان الذكاء الاصطناعي يؤدي نصف المهام داخل الشركة، فقررت الإدارة أن النصف البشري يمكن الاستغناء عنه أيضاً.
حتى شركة التكنولوجيا المالية “كلارنا”، التي ضاعفت أرباحها بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي، خفّضت موظفيها بنسبة 40%، بينما اختصرت “دولينغو” الطريق فألغت المتعاقدين الخارجيين تماماً، وسلمت مهامهم للخوارزميات.
من الخارج، تبدو القصة كأنها ثورة إنتاجية يقودها الذكاء الاصطناعي، لكن من الداخل تُشبه أكثر عملية تجميل بلاغي لقرارات مالية مؤلمة. الأداة الذكية لم تقل لأحد: “افصلوا الناس”. القرار بشري جداً — فقط غُلِّف بلغة برمجية.
الذكاء الاصطناعي كـ”شماعة ذهبية”: اعترافات من داخل السوق
يقول فابيان ستيفاني من جامعة أكسفورد إن الشركات “وجدت في الذكاء الاصطناعي شماعة أنيقة لتبرير قراراتها القاسية”. ففي زمن أصبحت فيه كلمة “الابتكار” كلمة السر في بورصة السمعة، تفضل الشركات أن تُقال عنها “رائدة في الأتمتة” بدلاً من “مفرطة في التوظيف سابقاً”.
يضيف ستيفاني بواقعية ساخرة: “أنا متشكك جداً في أن تكون التسريحات ناتجة عن كفاءة حقيقية. إنها مجرد إعادة تسمية لأخطاء بشرية قديمة”. وبالنسبة له، فإن الذكاء الاصطناعي ليس السبب، بل الستار الذي يُسدل لإخفاء سوء الإدارة القديمة والتخطيط المفرط خلال جائحة كورونا.
رائد الأعمال جان كريستوف بوجليه ذهب أبعد من ذلك، إذ قال إن “وتيرة تبنّي الذكاء الاصطناعي أبطأ بكثير مما يُروّج له”، وإن كثيراً من مشاريع الذكاء الاصطناعي في الشركات الكبرى “لم تتجاوز مرحلة العروض التقديمية”. ورغم ذلك، يعلن المدير المالي خططه لتسريح المئات “بسبب الذكاء الاصطناعي”. السحر هنا ليس في الخوارزميات، بل في العلاقات العامة.
الخوف يزداد… والأرقام لا تؤيده
تبدو الأخبار وكأنها تُنذر بمستقبلٍ تُدار فيه المكاتب بواسطة الروبوتات، لكن الإحصاءات تُروي حكاية أقل درامية. فبحسب آخر البيانات، قالت 1% فقط من شركات الخدمات إنها سرّحت موظفين بسبب الذكاء الاصطناعي خلال النصف الأخير من العام، انخفاضاً كبيراً من 10% في 2024.
أما 12% من الشركات، فأكدت أنها باتت توظف عدداً أقل من العمال، لكن 35% استخدمت الذكاء الاصطناعي لإعادة تدريب موظفيها، و11% زادت عدد العاملين بفضله.
يقول ستيفاني: “ما يحدث ليس بطالة تكنولوجية بقدر ما هو بطالة هيكلية انتقالية”. ومع ذلك، تتصرّف الشركات كما لو أن الخوارزميات تُطلق النار على الموظفين بنفسها.
الخبيرة المهنية جاسمين إسكاليرا ترى في ذلك خللاً أخلاقياً واضحاً: “الشركات تُخيف موظفيها باسم الذكاء الاصطناعي بدلاً من أن تشرح لهم كيف سيغيّر عملهم”. وتضيف أن غياب الشفافية “يغذّي الهلع أكثر مما يعالجه”، مشيرة إلى أن بعض الشركات تتعامل مع التسريح كـ”حملة علاقات عامة مبتكرة” بدلاً من قرار إداري مؤلم.
الذكاء الاصطناعي لم يفصل أحداً… البشر فعلوا
في النهاية، الحقيقة أبسط مما تُحاول البيانات إخفاءه: الذكاء الاصطناعي لم يطرق باب أي موظف ليُبلغه بالاستغناء عنه. من فعل ذلك هو المدير. التقنيات لا تملك دوافع مالية أو تقارير فصل، بل تُستخدم كـ غطاء حديث لقرارات تقشف قديمة.
تاريخياً، كل موجة تكنولوجية رافقها ذعر مشابه — من آلات الغزل في الثورة الصناعية إلى الحواسيب في التسعينات. ومع مرور الوقت، أثبتت الآلة أنها لا تُلغي الإنسان بل تجبره على أن يتغير.
لكن حتى يحدث ذلك، يبدو أن كثيراً من الشركات تفضل تعليق فشلها على لوحة المفاتيح بدلاً من النظر في المرآة.