الذهب يتربع على قمة أصول الملاذ الآمن.. والفضة تعود بقوة إلى المشهد العالمي

الاقتصاد العالمي | بقش
عادت أصول الملاذ الآمن لتحتل مركز الصدارة في خريطة القيمة السوقية العالمية، مع تصاعد حالة عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي، حيث حافظ الذهب على موقعه كأعلى أصل قيمة على الإطلاق، فيما جاءت الفضة ضمن المراكز الأولى، متقدمة على معظم عمالقة التكنولوجيا والشركات العابرة للقارات. هذه العودة لا تعكس مجرد موجة استثمارية عابرة، بل تشير إلى تحوّل أعمق في سلوك المستثمرين تجاه الأمان والسيولة وحفظ القيمة.
بحسب بيانات تتبَّعها “بقش” من مواقع القيم السوقية العالمية، بلغت القيمة التقديرية للذهب ما يقارب 31.7 تريليون دولار، استناداً إلى الأسعار الحالية وحجم الذهب المستخرج والمتداول أو المحتفظ به كاحتياطي رسمي لدى الدول. ويُظهر هذا الرقم الحجم الحقيقي للدور الذي يلعبه الذهب بوصفه الأصل النهائي للتحوّط، حين تتراجع الثقة بالعملات والأسواق المالية التقليدية.
اللافت أن هذه القيمة لا تمثل سقفاً ثابتاً، إذ تختلف تقديرات حجم الذهب المتاح فوق سطح الأرض بنسب قد تصل إلى 20% صعوداً أو هبوطاً، ما يضع القيمة السوقية الفعلية ضمن نطاق واسع، لكنه يؤكد في جميع الحالات أن الذهب يبقى الأصل الأعلى وزناً وتأثيراً في النظام المالي العالمي.
هذا الصعود المتواصل يعكس بيئة دولية مشبعة بالمخاطر، حيث تتداخل التوترات السياسية مع ضعف العملات، وتراجع السيولة، وارتفاع تكاليف الاقتراض، ما يدفع المستثمرين للعودة إلى الأصول التي لا ترتبط مباشرة بالسياسات النقدية أو الديون السيادية.
الفضة: معدن صناعي بوجه استثماري متجدد
في المركز الثالث عالمياً، برزت الفضة بقيمة سوقية تُقدّر بنحو 4.48 تريليونات دولار حسب اطلاع بقش، لتؤكد أنها لم تعد مجرد معدن ثانوي تابع لحركة الذهب، بل أصل مزدوج الوظيفة يجمع بين الاستثمار والصناعة. ويأتي هذا التقدير بناءً على سعر الأونصة الحالي وحجم الفضة التي جرى استخراجها تاريخياً، رغم أن جزءاً كبيراً منها فُقد أو استُهلك في التطبيقات الصناعية.
الفضة تتميز عن الذهب بكونها أكثر حساسية لدورة الاقتصاد الحقيقي، إذ يُوجَّه نحو نصف الطلب العالمي عليها إلى قطاعات صناعية حيوية، أبرزها الكهرباء والإلكترونيات والطاقة المتجددة. وهذا الارتباط يمنحها قيمة مضافة، لكنه في الوقت نفسه يجعل تقدير معروضها الفعلي أكثر تعقيداً مقارنة بالذهب.
ومع استمرار التوسع في الصناعات المرتبطة بالتقنيات النظيفة والرقمنة، تزداد أهمية الفضة كمكوّن لا غنى عنه، ما يعزز موقعها كأصل استراتيجي، لا يقتصر دوره على التحوّط، بل يمتد ليشمل قلب الاقتصاد الصناعي الحديث.
هذا التداخل بين الاستثمار والصناعة يفسّر القفزات الكبيرة في سعر الفضة خلال العام الجاري، حيث تفوقت مكاسبها النسبية على الذهب، مدفوعة بتزايد الطلب، وتقلص المعروض، وتحوّل المستثمرين نحو أصول ذات استخدام مزدوج.
المعادن النفيسة في مواجهة عمالقة التكنولوجيا
ورغم الصعود الصاروخي لقيم شركات التكنولوجيا، لا تزال المعادن النفيسة تتفوق بفارق هائل. فشركة إنفيديا، وهي الأعلى قيمة بين الشركات المدرجة، بلغت قيمتها السوقية نحو 4.63 تريليونات دولار حسب قراءة بقش، أي أقل بكثير من القيمة السوقية للذهب، وحتى أقل من مجموع الذهب والفضة مجتمعين.
هذا الفارق لا يعكس ضعف الشركات التقنية، بل يبرز الفرق الجوهري بين الأصول الإنتاجية عالية النمو، والأصول التحوطية التي تمثل مخزناً للقيمة عبر الزمن. فالذهب والفضة لا يعتمدان على أرباح أو نماذج أعمال، بل على الثقة والندرة والقبول العالمي.
وتأتي شركات مثل آبل، وألفابت، ومايكروسوفت، وأمازون، ضمن المراتب التالية، بقيم سوقية ضخمة لكنها تظل دون مستوى أصول الملاذ الآمن من حيث الاستقرار طويل الأجل.
حتى شركات الطاقة والموارد، مثل أرامكو السعودية، تبقى أقل وزناً سوقياً مقارنة بالذهب، ما يعكس الفارق بين أصل مرتبط بدورة الطلب، وأصل يُستخدم كمرجعية للقيمة نفسها.
الصعود المتزامن للذهب والفضة ليس ظاهرة معزولة، بل نتيجة مباشرة لمزيج من العوامل المتراكمة، تشمل تصاعد النزاعات الجيوسياسية، وتذبذب السياسات التجارية، وضعف الدولار، وتراجع الثقة بالاستقرار المالي طويل الأجل. في مثل هذه البيئات، تميل رؤوس الأموال إلى الخروج من الأصول عالية المخاطر نحو أدوات تحفظ القيمة.
كما أن انخفاض السيولة في الأسواق العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة، يضعف شهية الاستثمار في الأسهم، ويعزز جاذبية الأصول التي لا تعتمد على الاقتراض أو النمو الائتماني. وهنا، يستعيد الذهب والفضة دورهما التقليدي كمرساة للاستقرار.
التوقعات المستقبلية تعكس هذا الاتجاه، إذ تشير تقديرات الأسواق التي يتابعها بقش إلى إمكانية استمرار الصعود خلال العام المقبل، خاصة إذا استمرت الضغوط النقدية والتجارية، ما يضع المعادن النفيسة مجدداً في قلب النقاش حول مستقبل النظام المالي العالمي.
ما نشهده اليوم ليس مجرد ترتيب رقمي للقيم السوقية، بل إشارة واضحة إلى تحوّل في بوصلة الثقة العالمية. ففي عالم يتسم بتقلبات حادة، تعود الأصول التي لا يمكن طباعتها، ولا تخضع لقرارات سياسية مباشرة، لتفرض نفسها كملاذ أخير. وبينما تواصل شركات التكنولوجيا قيادة الابتكار، يبقى الذهب والفضة حراس القيمة في زمن الشكوك.


