
الاقتصاد العربي | بقش
في خطوة تُعد الأولى من نوعها داخل المملكة، وقعت شركة «البحري» عقداً بقيمة 762 مليون ريال مع شركة «العالمية للصناعات البحرية» لبناء 6 ناقلات بضائع سائبة من طراز «ألترا ماكس» في حوض رأس الخير الصناعي. يمثل هذا الاتفاق بداية عملية لتصنيع السفن محلياً، بعد سنوات من الاعتماد الكامل على عمليات الشراء من الخارج.
وفق اطلاع بقش يشير العقد إلى توجه واضح نحو تعزيز القدرات الصناعية المحلية في القطاعات البحرية، ضمن جهود أوسع لتقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين وتطوير سلاسل الإمداد الوطنية. وبحسب تصريحات رئيس «البحري» محمد بن بتّال، فإن هذه الناقلات ستُسهم في رفع الطاقة التشغيلية للشركة بشكل ملموس، مع دخولها الخدمة خلال الفترة ما بين عامي 2028 و2029.
رغم أهمية الخطوة، لا تزال قدرة الصناعة المحلية على المنافسة من حيث الكلفة والسرعة والجودة محل اختبار فعلي خلال السنوات المقبلة، خاصة أن المملكة تدخل مجالاً يحتاج إلى خبرات تراكمية وتقنيات متقدمة لا تُبنى بين ليلة وضحاها.
اختيار طراز «ألترا ماكس» جاء لاعتبارات تشغيلية مرتبطة بمرونة هذا النوع من السفن، إذ تُجهّز بأنظمة تحميل وتفريغ ذاتية تتيح لها العمل في الموانئ التي تفتقر إلى بنى تحتية متطورة. هذا يختصر زمن الانتظار ويقلل الكلفة التشغيلية ويمنح الشركة قدرة أكبر على دخول أسواق متنوعة.
السفن الجديدة تأتي في وقت يشهد فيه قطاع النقل البحري العالمي ضغوطاً مزدوجة: من جهة ارتفاع تكاليف التشغيل نتيجة اللوائح البيئية الصارمة وأسعار الوقود، ومن جهة أخرى اضطرابات جيوسياسية تؤثر على ممرات التجارة. في هذا السياق، الاستثمار في سفن مرنة التشغيل يُعد خطوة عملية لتحسين الكفاءة اللوجستية.
لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان تصنيع هذه السفن محلياً سيحقق وفورات حقيقية مقارنة بالاستيراد من أحواض أكثر خبرة في كوريا الجنوبية أو الصين، خاصة في أولى التجارب التي عادة ما تواجه تحديات تقنية وتشغيلية.
الأمن الغذائي في صلب المشروع
الناقلات الست صُممت بشكل أساسي لخدمة قطاعي الحبوب والأسمدة، في وقت تصاعد فيه اهتمام السعودية بالأمن الغذائي كمحور اقتصادي واستراتيجي. وتشير بيانات رسمية طالعها بقش إلى ارتفاع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي من 109 مليارات ريال في 2023 إلى 114 مليار ريال في 2024، وهي زيادة تعكس توسعاً تدريجياً في هذا المجال.
الأسواق المستهدفة تشمل أمريكا الجنوبية، أستراليا، الولايات المتحدة، ومنطقة البحر الأسود، وهي مناطق تشهد أحياناً توترات سياسية أو قيوداً لوجستية. امتلاك أسطول ناقلات محلي مخصص لنقل هذه السلع يُعد وسيلة لتقليل الاعتماد على مزودي النقل الأجانب، وضمان مرونة أكبر في أوقات الأزمات.
مع ذلك، فإن بناء الأسطول وحده لا يكفي لضمان أمن غذائي مستدام، إذ يحتاج الأمر إلى تنسيق أوسع بين سياسات النقل والتخزين والشراء الحكومي والأسواق العالمية، وهو تحدٍ هيكلي لم يُختبر بعد على نطاق واسع.
شركة «البحري» تُعد من أبرز شركات النقل البحري في المنطقة، وتدير واحداً من أكبر أساطيل ناقلات النفط والكيماويات عالمياً بطاقة تشغيلية تبلغ 1.68 مليون طن. إضافة ست ناقلات للبضائع السائبة يعني رفع الأسطول المخصص لهذا القطاع بنحو 50%، وهي زيادة ستنعكس تدريجياً على نشاط الشركة المالي خلال السنوات المقبلة.
غير أن سوق النقل البحري يشهد حالياً تقلبات حادة نتيجة تغيرات الطلب العالمي على السلع، وتراجع أسعار الشحن في بعض الخطوط، واشتداد المنافسة من شركات آسيوية. وبالتالي، فإن نجاح هذه الخطوة يعتمد على قدرة «البحري» على دمج السفن الجديدة في استراتيجيتها التجارية بكفاءة، وليس فقط على بنائها محلياً.
كما أن توقيت دخول هذه السفن للخدمة -بين 2028 و2029- يعني أن تأثيرها لن يكون فورياً، ما يمنح الشركة وقتاً لتقييم المتغيرات في السوق ووضع استراتيجيات تشغيل مناسبة.
صناعة ناشئة وشراكات عالمية
تأسست «العالمية للصناعات البحرية» عام 2017 لتكون ركيزة توطين صناعة السفن. وتُعد «أرامكو السعودية» أكبر المساهمين فيها، إلى جانب «البحري» التي تمتلك نحو 19.9%، إضافة إلى شركاء دوليين أبرزهم «هيونداي» الكورية. هذا المزيج يعكس محاولة لدمج رأس المال الوطني بالخبرة التقنية الخارجية.
رغم الحضور الدولي في المشروع، تبقى صناعة السفن من أكثر الصناعات تعقيداً على مستوى نقل المعرفة، وغالباً ما تحتاج إلى سنوات من العمل المتواصل لتطوير سلاسل توريد محلية فعالة وبنية تحتية بشرية وتقنية مؤهلة. ومن غير المتوقع أن تصبح المملكة لاعباً رئيسياً في هذا القطاع على المدى القصير.
مع ذلك، فإن دخول هذا المجال يمثل تحولاً ملموساً في توجهات الاستثمار الصناعي، ويعطي إشارة إلى تنويع الاقتصاد السعودي بعيداً عن الاعتماد على النفط فقط، مع محاولة بناء صناعات ثقيلة موجهة للأسواق المحلية والإقليمية.
الخطوة السعودية لتصنيع ناقلات البضائع محلياً تمثل بداية واقعية لقطاع لم يكن موجوداً عملياً داخل البلاد قبل أقل من عقد حسب قراءة بقش. هي ليست قفزة كبرى بقدر ما هي اختبار لقدرة البنية الصناعية المحلية على تنفيذ مشاريع معقدة تقنياً ومالياً.
وإذا نجحت التجربة، قد تمهد الطريق لتوسع تدريجي في صناعة السفن داخل المملكة، وفي حال واجهت تحديات هيكلية أو مالية، فقد تظل خطوة رمزية أكثر منها تحولاً صناعياً واسع النطاق. وفي كل الأحوال، فإن التوقيت والنتائج العملية خلال الأعوام القادمة سيكونان العامل الحاسم في تقييم هذا التحرك.