
تقارير | بقش
رغم تصاعد حرب التعريفات الجمركية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تستمر سلع صينية بقيمة تقترب من مليار دولار تُشحن يومياً إلى السوق الأمريكية، ما يكشف عن قدرة بكين على الاحتفاظ بمفاتيح التصدير بالرغم من القيود. هذا الأمر يضع واشنطن أمام سؤالٍ صعب: هل يمكن فعلاً تقويض تفوّق الصين التصديري عبر الرسوم؟
من جهة أخرى، تُشير البيانات التي اطلع عليها مرصد بقش إلى تحولات ضمنية في شكل التجارة الثنائية بين الصين والولايات المتحدة: بعض المنتجات ارتفعت صادراتها، لكن التجارة الإجمالية بدأت تميل نحو الانكماش، في مسار يعكس بداية إعادة رسم خريطة سلاسل الإمداد العالمية.
المرحلة الحالية أيضاً تُعد اختباراً لقدرة الصين على استخدام هذه الصادرات كورقة تفاوض، في الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى إعادة توطين الإنتاج الأمريكي وتقليص اعتماده على المورد الآسيوي، ما يثير احتمالات تصاعد الصدام الاقتصادي بين القوتين.
أداء الصادرات الصينية: أكثر من مجرد أرقام
تُظهر بيانات الجمارك الصينية أن الصين صدّرت إلى الولايات المتحدة خلال الربع الثالث أكثر من 100 مليار دولار من البضائع، مما ساهم في رفع فائضها التجاري مع أمريكا إلى نحو 67 مليار دولار.
وعلى الرغم من أن معظم أكبر عشرة أصناف تصدير إلى أمريكا سجلت تراجعاً سنوياً، إلا أن بعض المنتجات ارتفعت، ومنها السجائر الإلكترونية والدراجات الكهربائية، ما يدل على أن الضغط ليس موحداً عبر القطاعات.
كما أن الصين تصدّر يومياً ما يقرب من مليار دولار من السلع إلى أمريكا، مع تسجيل ارتفاع طفيف في القيمة خلال شهر سبتمبر مقارنة بأغسطس، ما يعكس مرونة تاجر صيني أكثر من انتظار التأثير الكامل للرسوم.
هذا الأداء المتماسك يعطي الصين هامشاً تفاوضياً أكبر أمام أمريكا، التي تُريد استعادة زمام التصنيع، لكنه أيضاً يغذي مخاوف أمريكية من أن الرسوم لا تحقق أهدافها سريعاً.
ترامب والضغط المتبادل: رسومات وأرقام
يضع ترامب على طاولة التفاوض مع الصين ملفات محورية مثل المعادن النادرة، والفنتانيل، وفول الصويا—في مسعى لربط التجارة بالقضايا الأمنية والصناعية الأمريكية.
لكن الرسوم وصلت إلى حوالي 55% على بعض الواردات الصينية حسب تتبُّع بقش لهذا الملف، ومع ذلك فإن الاعتماد الأمريكي على سلع صينية حيوية لم يتبدّل بشكل كبير في المدى القريب، مما يثير تساؤلات حول جدوى التعريفات كأداة فورية للضغط.
في الوقت ذاته، تهدف إدارة ترامب إلى تشجيع العوائد الصناعية المحلية وتحويل مسارات الإنتاج من الصين إلى داخل الولايات المتحدة أو دول أخرى صديقة، لكن هذه العملية تحتاج سنوات وليست مضمونة النجاح.
النتيجة هي أن الحرب التجارية لا تظهر كصفقة حسم واضحة بعد، بل كسباق استغرقته الولايات المتحدة ضد الوقت والخريطة الصناعية العالمية، بينما الصين تنتظر لتوظيف مكانتها التصديرية كورقة استراتيجية.
تحولات في القطاعات: من الإلكترونيات إلى المعادن النادرة
داخل هذا المناخ، برزت قطاعات معينة كأكثر مقاومة لتأثير الرسوم. فمثلاً، صادرات الدراجات الكهربائية الصينية إلى أمريكا بلغت أكثر من 500 مليون دولار في الأشهر الثلاثة المنتهية في سبتمبر حسب مراجعة بقش، بزيادة طفيفة مقارنة بالعام السابق.
كما ارتفعت صادرات ألواح النحاس المكرَّر من الصين إلى أمريكا إلى حوالي 270 مليون دولار، بعد أن كانت شبه معدومة، وكذلك قفزت صادرات الكابلات الكهربائية بنسبة حوالي 87% لتصل إلى 405 مليون دولار.
من جهة أخرى، تجارة الإلكترونيات الكبيرة مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر سجلت أرقاماً أقل من العام الماضي، لكنه لا يزال هناك تدفّق كبير إلى السوق الأمريكية، ما يشير إلى أن الصين تحتفظ بوضعها رغم التباطؤ العام.
هذه التحولات تؤكد أن التعريفات لا تؤثر بشكلٍ متساوٍ على كل القطاعات، وأن أول المستجيبين لهذا الضغط هم القطاعات الأكثر انكشافاً، بينما يستمر الآخرون في التصدير.
ثغرات ورسائل الاقتصاد السري.. الشحن عبر الطرق الخلفية
رسوم ترامب لا تُطبق حصراً على خطوطٍ واضحة؛ فهناك ما يُعرف بـ”طرق الالتفاف” التي تساعد المستوردين الأمريكيين على تفادي الكلفة الكاملة: من التصريح بقيمة أول بيع عبر دولة ثالثة إلى الشحن العابر عبر المكسيك أو فيتنام.
ووفق تصريحات محللين تتبَّعها بقش، فإن الجمارك الأمريكية تفتقر إلى الموارد البشرية الكافية لسدّ هذه الثغرات، ما يعزز قدرة الصين والمستوردين الأمريكيين على الالتفاف على القيود. النتيجة: بينما يبدو المشهد رسمياً “حرب تعريفات”، فإن الواقع يحتوي على سوق ظليّة تعمل في الخلف ويستفيد منها المورد الصيني والمستهلك الأمريكي على حد سواء.هذا يعني أيضاً أن الاعتماد الأمريكي على الصين ليس قابلاً للتخلي عنه بالكامل في الأجل القريب، وهو ما يعيد احتمالية أن تستعمل بكين صادراتها كورقة تفاوضية بدلاً من أن تكون ضحية.
في النهاية، يُمكن القول إن الصين تحتفظ اليوم بموقف مفاوضي قوي، بفضل صادراتها التي لا تزال تجتاز المحيط بمليارات الدولارات يومياً، رغم الرسوم المتصاعدة. ومن جانبه يخوض ترامب حرباً صناعية وتجارية تمكّن من إعادة تشكيل خطوط الإنتاج، لكنه يواجه وقائع واقتصادات كبيرة ليست بالسهولة التي يعتقد في التأثير عليها فوراً.
ومع ذلك، فإن المرونة الحالية للصادرات الصينية لا تعني أن المسار ثابت وفق قراءة بقش. فالانكماش التدريجي في حجم التجارة، وإعادة شركات كبرى توطين إنتاجها خارج الصين، يشيران إلى أن التغيّر قادم، لكن ليس سريعاً.
في هذا المشهد، يمضي الاقتصاد العالمي إلى “وضع طبيعي جديد” حيث لن ترسم خارطة التجارة الأمريكية-الصينية كما كانت، ولكنها لن تنهار بالكامل أيضاً. الصين تصدّر، أمريكا تستورد، والرسوم تلعب دوراً لكن ليس الدور الحاسم الذي كان مترقباً.