الغذاء العالمي: تعافٍ نقدي هش جنوب اليمن يقابله تعليق كامل للمساعدات شمالاً… الأمن الغذائي على شفا حفرة

الاقتصاد اليمني | بقش
شهد شهر أغسطس 2025 تطورات دراماتيكية في مشهد الأمن الغذائي والاقتصادي في اليمن، حيث سجلت مناطق سيطرة حكومة عدن انتعاشاً نقدياً سريعاً وغير مسبوق، أدى إلى تراجع في تكلفة السلة الغذائية الأساسية، في وقت تواجه فيه مناطق سيطرة حكومة صنعاء توقفاً كاملاً لأنشطة برنامج الأغذية العالمي منذ نهاية أغسطس، وسط مستويات تمويل إنساني هي الأدنى خلال عقد كامل.
وبينما انعكس هذا التحول النقدي مؤقتاً على القوة الشرائية جنوباً، ما يزال نحو ثلاثة من كل خمسة يمنيين عاجزين عن تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية، في مشهد يعكس هشاشة التحسن الحالي وقابليته السريعة للانتكاس في حال غياب تدفقات العملة الأجنبية أو عودة صادرات النفط.
وحسب اطلاع المرصد الاقتصادي “بقش” على تقرير “التحديث الشهري للأمن الغذائي – سبتمبر 2025” الصادر عن برنامج الأغذية العالمي، فإن التحولات التي شهدها شهر أغسطس كشفت عن تباين حاد بين الوضعين الاقتصادي والغذائي في مناطق حكومة عدن من جهة، ومناطق صنعاء من جهة أخرى، سواء من حيث الأسعار المحلية، أو سعر الصرف، أو استقرار تدفقات المساعدات والواردات.
ويُعد هذا التقرير الذي يصدره برنامج الأغذية العالمي مرجعاً رئيسياً لرصد تطورات الأمن الغذائي شهرياً، ويستند إليه صانعو القرار والجهات الإنسانية والمانحون في تقييم الوضع الإنساني والاقتصادي في اليمن واتخاذ الإجراءات المستقبلية.
تعليق كامل للمساعدات شمالاً وتمويل إنساني متدنٍ
وفق قراءة “بقش”، أكمل برنامج الأغذية العالمي أربع دورات من المساعدات الغذائية العامة في مناطق حكومة عدن خلال عام 2025، مستهدفاً نحو 3.4 مليون مستفيد في كل دورة، فيما كانت الدورة الخامسة جارية حتى 25 سبتمبر بنسبة إنجاز بلغت 51%.
هذه الدورات تُصرف وفق نهج المساعدة الطارئة المستهدفة الذي يُبنى على أحدث تحليلات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي وعمليات الاستهداف الأسري. أما في مناطق حكومة صنعاء، فقد اكتملت الدورة الثانية من النهج ذاته في أواخر أغسطس، لتتوقف بعد ذلك جميع أنشطة البرنامج منذ 31 أغسطس، وهو ما يثير مخاوف جدية من تفاقم انعدام الأمن الغذائي شمالاً في حال استمرار التعليق لفترة طويلة.
ويشير التقرير إلى أن خطة الاستجابة الإنسانية للعام 2025 تعاني من نقص حاد في التمويل، إذ لم يتجاوز التمويل حتى 22 سبتمبر نسبة 20% من الاحتياج، وهي أدنى نسبة تمويل خلال السنوات العشر الماضية، ما يعكس حجم التحديات أمام المنظمات الإنسانية لتغطية الفجوات التمويلية وضمان استمرار عملياتها في كل من الشمال والجنوب.
وحسب التقرير، سجلت تكلفة السلة الغذائية الدنيا في مناطق حكومة عدن انخفاضاً شهرياً غير مسبوق بلغ 34% خلال أغسطس مقارنة بيوليو، وهو أكبر تراجع شهري مسجّل حتى الآن، كما انخفضت بنسبة 12% على أساس سنوي.
جميع المحافظات شهدت تراجعاً شهرياً تراوح بين 29% و41%، فيما سجلت معظم المحافظات انخفاضاً سنوياً أيضاً، باستثناء محافظة شبوة التي ارتفعت فيها التكلفة بنسبة 6% مقارنة بأغسطس 2024 رغم هبوطها الشهري بنسبة 32%.
وقد انعكس هذا التراجع على أسعار السلع الغذائية الأساسية، إذ انخفضت أسعار الدقيق والفاصوليا الحمراء والسكر بنسبة تراوحت بين 32% و38% شهرياً، وبنحو 13% إلى 15% سنوياً، بينما استقرت أسعار زيت عباد الشمس نسبياً.
وأدى هذا الانخفاض إلى تحسن القوة الشرائية للأسر، إذ ارتفعت قدرة أجر العامل غير الماهر على شراء الدقيق بنسبة 28% شهرياً وبنسبة 16% سنوياً.
أما في مناطق سلطات صنعاء فقد استقرت تكلفة السلة الغذائية الأساسية تقريباً على أساس سنوي، دون تسجيل انخفاضات مماثلة، نتيجة ثبات الأسعار المحلية وشح العملة الأجنبية في الأسواق.
انخفاض في أسعار الوقود جنوباً واستقرار شمالاً
أوضح التقرير أن أسعار الوقود في مناطق حكومة عدن شهدت تراجعاً شهرياً خلال أغسطس، حيث انخفض سعر البنزين بنسبة 24% والديزل بنسبة 28%، ما انعكس مباشرة على تكاليف النقل التي قد تمثل حتى 30% من تكلفة الغذاء. وعلى أساس سنوي، تراجعت أسعار البنزين والديزل بنحو 3%. أما في مناطق صنعاء فقد استقرت أسعار البنزين الرسمية تقريباً، في حين ارتفعت أسعار الديزل في السوق السوداء بنسبة 2%.
وشهد سعر صرف الريال في مناطق حكومة عدن تحسناً خلال أغسطس، حيث ارتفع حسب اطلاع بقش من 2,879 ريالاً للدولار الواحد إلى نحو 1,618 ريالاً، نتيجة حزمة من الإجراءات الحكومية الصارمة، من بينها تشديد الرقابة على شركات الصرافة، وحظر التسعير بالعملات الأجنبية محلياً، وتقييد عمليات الاستيراد، بالإضافة إلى تحديد سقوف لسعر الريال السعودي. وحذّر التقرير من أن هذا التحسن النقدي لن يكون مستداماً في غياب تدفقات مستمرة للعملات الأجنبية أو عودة صادرات النفط.
أما في مناطق حكومة صنعاء، فقد ظل سعر الصرف مستقراً عند نحو 534 ريالًا للدولار، وسط شح كبير في العملات الأجنبية، ومع صدور توجيهات من البنك المركزي بصنعاء منتصف أغسطس تمنع تمرير معاملات الاستيراد عبر كيانات مالية في مناطق حكومة عدن.
أظهرت بيانات التقرير أن واردات الوقود عبر موانئ البحر الأحمر تراجعت خلال أغسطس بنسبة 30% عن متوسط الاثني عشر شهراً الماضية، كما انخفضت إجمالي واردات الوقود خلال الفترة من يناير إلى أغسطس 2025 بنسبة 27% مقارنة بعام 2024، نتيجة للأضرار التي لحقت بالموانئ وتراجع قدرتها التشغيلية.
كما شهدت واردات الوقود عبر موانئ عدن والمكلا انخفاضاً بنسبة 17%، ما ساهم في زيادة الانقطاعات الكهربائية في مناطق حكومة عدن. وعلى صعيد الغذاء، تراجعت الواردات بنسبة 7% على مستوى البلاد، مع انخفاض بنسبة 20% عبر موانئ البحر الأحمر مقابل زيادة بنسبة 45% عبر موانئ عدن والمكلا، ما يعكس تغير مسارات الإمداد التجاري.
مؤشرات الأسر تكشف هشاشة الوضع الغذائي
حسب قراءة “بقش”، لا تزال مستويات انعدام الأمن الغذائي مرتفعة، إذ إن 62% من الأسر اليمنية غير قادرة على تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية (64% في مناطق حكومة عدن و62% في مناطق صنعاء)، رغم تحسن مؤقت بمقدار 8 نقاط مقارنة بشهر يوليو.
كما يعاني 34% من الأسر من حرمان غذائي شديد، متجاوزين العتبة المرتفعة جداً في جميع المحافظات تقريباً. كما أظهرت البيانات أن 12% من الأسر جنوباً و18% شمالاً اضطرت للصيام ليوم كامل بسبب انعدام الغذاء، فيما تلجأ 40% من الأسر في مناطق حكومة عدن و45% في مناطق سلطات صنعاء إلى استراتيجيات تكيّف شديدة، وترتفع النسبة إلى 50% في الأسر التي تعيلها نساء.
يوضح التقرير أن جمع أسعار السوق في مناطق سلطات صنعاء توقف منذ يونيو 2024 لأسباب أمنية، وأن السلة الغذائية الأساسية تُحسب على أساس مكونات ثابتة تشمل الدقيق والفاصوليا والزيت والسكر والملح، وأن حصة المساعدات الكاملة تعادل 1,650 سعرة حرارية للشخص يومياً لمدة 30 يومًا، وتُصرف على شكل دورات وليس شهرياً.
المشهد العام يعكس هشاشة التحسن النقدي في مناطق حكومة عدن، في ظل تراجع الواردات وضعف التمويل الإنساني وتعليق المساعدات شمالاً.
التحسن الأخير في الأسعار جنوباً قد يتبدد سريعاً إذا لم تتعزز مصادر النقد الأجنبي أو تُستأنف صادرات النفط، بينما يهدد التعليق المستمر للعمليات الإنسانية في الشمال بمفاقمة مستويات انعدام الأمن الغذائي، خصوصاً مع استمرار الضغوط على سلاسل الإمداد.