
تقارير | بقش
في واحدة من أكثر التحذيرات صراحة منذ بداية العام، حذّر جون ويليامز، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، من أن الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء تهدد بدفع الاقتصاد الأمريكي نحو الركود.
وقال في تصريحات اطلع عليها مرصد “بقش” لدى صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، إن الأسر منخفضة ومتوسطة الدخل “تعيش على الحافة”، بينما يستفيد الأثرياء من “أسواق أسهم مزدهرة قرب مستوياتها التاريخية”.
يرى ويليامز أن الأزمة لم تعد اقتصادية فحسب، بل أصبحت بنيوية، إذ فقدت الطبقة الوسطى الأميركية قدرتها على أداء دورها التقليدي كمحرّك رئيسي للاستهلاك والإنتاج. ومع ارتفاع الأسعار وتكاليف السكن، تتراجع الثقة بالاقتصاد، فيما يشعر المواطن العادي بأن النمو لم يعد ينعكس على حياته اليومية.
التحذير يعكس مخاوف داخلية أعمق لدى دوائر صنع القرار النقدي، إذ تخشى واشنطن أن تؤدي الأزمة الاجتماعية إلى تباطؤ مفاجئ في الإنفاق، ما يضرب أكثر من ثلث الناتج المحلي الأمريكي القائم على الاستهلاك. وفي الوقت نفسه، لا يزال التضخم متمسكاً بمستويات أعلى من هدف الفيدرالي البالغ 2% وفق اطلاع بقش، ما يقيّد قدرة البنك المركزي على التحرك بسرعة.
وبينما يستعد المجلس لعقد اجتماعه الحاسم في ديسمبر، يبدو أنه أمام معضلة حقيقية: كيف يمكن خفض أسعار الفائدة لدعم الفقراء دون إشعال موجة تضخمية جديدة يستفيد منها الأغنياء؟ هذه المفارقة تُظهر أن التفاوت الاجتماعي بات يفرض إيقاعه على السياسة النقدية، لا العكس.
اقتصاد بوجهين: سوق أسهم مزدهر وشعب يختنق
تعيش الولايات المتحدة حالياً مشهداً اقتصادياً مزدوجاً؛ حيث ترتفع الثروات في البورصة بينما تزداد معاناة الأسر العادية. فوفق فاينانشيال تايمز، فإن الإنفاق الاستهلاكي القوي في الإحصاءات الرسمية يُخفي وراءه حقيقة أن معظم هذا الإنفاق يأتي من أصحاب الدخول العليا، بينما تكافح الشرائح الدنيا لتغطية احتياجاتها الأساسية.
هذا الانقسام يعكس ما وصفه ويليامز بـ”السلوك المفكك” للأسر الأمريكية، حيث يعيش الاقتصاد في مستويين منفصلين: الأول للأثرياء الذين يستفيدون من أرباح التكنولوجيا والعقارات، والثاني لملايين يعيشون من راتب إلى آخر. هذه الفجوة تجعل النمو الاقتصادي هشاً وقابلاً للانكسار عند أول صدمة في سوق العمل أو أسعار الفائدة.
من ناحية أخرى، يشير مسؤولون في الفيدرالي إلى أن سوق العمل بدأ “يبرد تدريجياً” مع ضعف في خلق الوظائف، خصوصاً في القطاعات الخدمية التي تشغّل الطبقة المتوسطة حسب قراءة بقش. هذا التباطؤ يهدد بتقويض أي انتعاش محتمل في الطلب المحلي، خصوصاً أن الأسر المثقلة بالديون لا تملك مساحة كافية للصمود في وجه ارتفاع الأسعار.
النتيجة أن الاقتصاد الأمريكي يبدو ظاهرياً في حالة ازدهار، لكنه في العمق يسير على حافة توازن هشّ. فبينما ترتفع ثروات القلة، تتقلص قدرة الأغلبية على الاستهلاك، وهو ما يُضعف الأساس الحقيقي للنمو ويزيد من احتمالات الركود في عام 2026 إذا لم يتم تدارك الأزمة مبكراً.
ذكاء اصطناعي يغذي التفاؤل… وفقاعة محتملة تثير المخاوف
وسط هذا المشهد المزدوج، تراهن الأسواق على طفرة الذكاء الاصطناعي كمنقذ جديد للاقتصاد الأمريكي. ويرى جون ويليامز أن “التوقعات بارتفاع الإنتاجية بسبب الذكاء الاصطناعي ليست خيالية”، مشيراً إلى أن موجة الاستثمارات التكنولوجية الحالية أعادت الثقة إلى القطاع الصناعي والمالي على حد سواء.
لكن هذا التفاؤل لا يخلو من المخاطر. فصعود الأسهم التقنية السريع يعيد إلى الأذهان مشهد فقاعة الإنترنت في مطلع الألفية، حين تحوّل التفاؤل المفرط إلى انهيار مدوٍّ. ويقرّ ويليامز بأن “الاستثمار المفرط” محتمل، لكنه لا يرى فيه خطراً آنياً طالما بقي التمويل قائماً على الأسهم لا على الديون. ومع ذلك، فإن مؤشرات السوق تُظهر ميلاً واضحاً للمضاربة في قطاعات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المرتبطة به.
من ناحية أخرى، بدأ خبراء الاقتصاد في التحذير من أن المكاسب المرتبطة بالذكاء الاصطناعي قد تتركّز في أيدي الشركات العملاقة فقط، ما يعمّق التفاوت القائم بدلاً من معالجته. فبدلاً من إعادة توزيع الثروة عبر الابتكار، قد تخلق التكنولوجيا فجوة جديدة بين “اقتصاد الخوارزميات” و”اقتصاد العمالة الحقيقية”.
وفي الوقت الذي يتباهى فيه المستثمرون بعوائد قياسية، يحذر بعض المسؤولين من أن الإفراط في التفاؤل يمكن أن يضلل صناع القرار ويجعلهم يتجاهلون الخطر الاجتماعي المتنامي. فالثقة التي تبنيها الشركات الكبرى على الورق لا تعني بالضرورة تحسناً في معيشة المواطنين الذين يعيشون على الهامش.
سياسة نقدية بين المطرقة والسندان
بين ضغوط الأسعار ومخاوف الركود، يجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه في مأزق تاريخي. فقد خفّض البنك أسعار الفائدة مرتين هذا العام بواقع ربع نقطة في كل مرة، لكنه يدرك أن أي خفض إضافي قد يُشعل موجة جديدة من التضخم. وفي المقابل، فإن الإبقاء على الفائدة المرتفعة سيخنق النمو ويزيد من عبء الديون على الأسر الفقيرة.
ويشير ويليامز إلى أن تصويت ديسمبر سيكون “عملاً متوازناً بكل معنى الكلمة”، معتبراً أن السياسة النقدية تحتاج إلى “دقة جراحية” لتفادي الركود من دون خلق فقاعة جديدة في الأصول. ويضيف أن “الاقتصاد الأمريكي يُظهر مرونة، لكنه لا يملك بعدُ طاقة كافية لتحمل مزيد من الصدمات”.
الملف الأكثر حساسية أمام الفيدرالي هو استمرار ما يُعرف بسياسة “التشديد الكمي” التي قلّصت ميزانية البنك المركزي بأكثر من تريليوني دولار خلال ثلاث سنوات. بعض الخبراء يرون أن هذه السياسة أرهقت الأسواق المالية، فيما يتمسك ويليامز بضرورة الاستمرار حتى نوفمبر على الأقل، باعتبارها خطوة “منطقية” لتصحيح التشوهات النقدية.
غير أن هذا التوجه يواجه معارضة داخلية، أبرزها من رئيسة بنك الاحتياطي في دالاس “لوري لوجان”، التي دعت إلى تغيير آلية تحديد سعر الفائدة المرجعي وفق متابعات بقش. لكن ويليامز رفض المقترح مؤكداً أن نظام “سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية” سيبقى حجر الأساس في سياسة البنك. وفي ظل هذه الانقسامات، يبدو أن اجتماع ديسمبر سيحسم ليس فقط مصير الفائدة، بل مستقبل توجهات الفيدرالي ذاته.
عندما يصبح الفقر مؤشراً اقتصادياً
يبدو أن الاقتصاد الأمريكي يقترب من لحظة الحقيقة: لم تعد الأسواق وحدها هي مقياس العافية الاقتصادية، بل أصبح توزيع الدخل جزءاً من معادلة النمو. فإذا استمرت الفجوة الطبقية في الاتساع، فإن الركود لن يأتي من المؤشرات بل من الشارع، حين يتوقف ملايين الأمريكيين عن الإنفاق لأنهم ببساطة لا يستطيعون.
إن ما يواجهه الفيدرالي اليوم ليس أزمة أرقام بل أزمة عدالة اقتصادية، حيث لم يعد التوازن بين التضخم والنمو كافياً ما لم يُؤخذ في الحسبان التفاوت الاجتماعي. ويشير هذا التحول إلى أن السياسة النقدية في الولايات المتحدة تدخل مرحلة جديدة، تُقاس فيها قرارات الفائدة بمدى تأثيرها على الفقراء لا فقط على المستثمرين.
إذا فشل البنك المركزي في كبح هذه الفجوة، فقد يجد نفسه أمام “ركود اجتماعي” يسبق الركود الاقتصادي، وهو أخطر بما لا يُقاس. ففقدان الثقة في عدالة النظام المالي سيضرب الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه الاقتصاد الأمريكي منذ قرن.
وبينما يراقب العالم قرارات ديسمبر، فإن السؤال الأكبر الذي يطرحه مرصد بقش هو: هل ما زال الاقتصاد الأمريكي قادراً على تحقيق النمو من دون إصلاح توزيع الثروة؟ الإجابة ستحدد ما إذا كان الركود القادم دورة اقتصادية جديدة… أم بداية مرحلة انهيار في العقد الاجتماعي الأمريكي.


