تقارير
أخر الأخبار

الكنز الروسي المحتجز.. كيف تحوّل إلى بنك تمويلٍ لأوكرانيا؟

تقارير | بقش

بعد أكثر من عامين على تجميد مئات المليارات من الدولارات الروسية في بنوك الغرب، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام معضلة سياسية وأخلاقية وقانونية: كيف يمكنه استخدام هذه الأموال لدعم أوكرانيا دون الوقوع في فخ “السرقة السيادية”؟.

الأموال الروسية المجمدة – التي تصل قيمتها إلى 300 مليار دولار – أصبحت رمزاً مزدوجاً للأزمة، فهي من جهة تمثل ثروة روسيا المركزية المحتجزة في الغرب، ومن جهة أخرى فرصة مغرية لتمويل حرب أوكرانيا وإعادة إعمارها.

ومع انسحاب واشنطن من تمويل كييف بقرار من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اندفعت العواصم الأوروبية لتغطية العجز عبر استغلال أرباح تلك الأصول المجمدة، في خطوة وُصفت بأنها “أذكى عملية مالية سياسية في التاريخ الحديث”، إذ تسمح لأوروبا بالإنفاق من أموال روسيا دون أن تمسّ أصلها.

كيف يعمل نظام “الأرباح لا الأصول”؟

وفق الخطة الأوروبية الجديدة التي اطلع بقش على تفاصيلها، تُستخدم الفوائد والأرباح المتولدة عن الأصول الروسية المجمدة – خصوصاً تلك المودعة في مؤسسة “يوروكلير” ببروكسل – كضمانٍ لإصدار قروض ضخمة لصالح أوكرانيا.

الآلية تقوم على أن تبقى الأصول الأصلية مجمدة في أماكنها، بينما تُحول العوائد السنوية الناتجة عنها إلى صندوق تمويل خاص. ومن خلال هذا الصندوق، ستُقدّم قروض بقيمة تصل إلى 140 مليار يورو، على أن لا تُسدد كييف هذه القروض إلا إذا وافقت موسكو يوماً ما على دفع تعويضات الحرب.

بمعنى آخر، أوروبا لا تصادر الأموال الروسية، لكنها تخلق منها مصدر دخلٍ دائم يُستخدم لتمويل أوكرانيا – دون كسر القوانين الدولية التي تحمي الملكية السيادية للدول.

وتأتي هذه الخطة امتداداً لترتيب سابق اتفقت عليه مجموعة السبع في عام 2024، يقضي بتقديم قروض لأوكرانيا تُسدد من أرباح الأصول الروسية المجمدة. وضمن هذا الإطار، منح الاتحاد الأوروبي كييف قروضاً بقيمة 45 مليار يورو بالفعل، بينما يجري الآن التحضير لموجة تمويل جديدة تفوق ثلاثة أضعاف الرقم الأولي.

بلجيكا وقلق “المسؤولية المضيفة”

بما أن الجزء الأكبر من الأصول المجمدة مودع في مؤسسة “يوروكلير” البلجيكية، كانت بروكسل الأكثر تحفظاً. فبلجيكا حسب اطلاع بقش تخشى أن تجد نفسها مضطرة يوماً ما لدفع عشرات المليارات لروسيا في حال قضت محكمة دولية بإعادة الأموال.

ولتفادي هذا السيناريو، أعد الاتحاد الأوروبي صيغة خاصة تُعرف باسم “عقد الدين المصمم خصيصاً”، وهو آلية قانونية بفائدة 0% تضمن حماية “يوروكلير” من أي مطالبات روسية مستقبلية.

هذه الصيغة تجعل من الاتحاد الأوروبي كفيلاً جماعياً للمؤسسة، بحيث إذا اضطرت الأخيرة يوماً ما لإعادة الأصول، تتحمل الدول الأعضاء الخسارة بالتناسب مع مساهماتها.

وتؤكد مصادر أوروبية أن بلجيكا لن تمضي في تنفيذ الخطة قبل الحصول على ضمانات مكتوبة من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي بأن مسؤوليتها القانونية لن تكون فردية، بل جماعية على مستوى الاتحاد.

بين القانون والسياسة.. المعضلة الأوروبية

يعترف المسؤولون في بروكسل بأن أي خطوة نحو مصادرة الأصول الروسية ستكون سابقة خطيرة في النظام المالي الدولي، لأنها تمس بمبدأ أساسي: عدم جواز الاستيلاء على ممتلكات دولة أجنبية إلا بحكم قضائي يثبت ارتكابها جريمة.

الغزو الروسي لأوكرانيا قد يمثل انتهاكاً للقانون الدولي، لكن الأصول الروسية المجمدة لا تُعد قانوناً “عائدات جريمة”، فهي احتياطات رسمية مودعة في مؤسسات مالية، وليست أموالاً مسروقة أو مغسولة.

لذلك، اختار الاتحاد الأوروبي طريقاً وسطاً: استغلال الأموال دون مصادرتها. هذا المبدأ يجعل العملية قانونية شكلاً، ويمنحها غطاءً سياسياً كافياً لتجنب اتهامات “النهب المالي”، لكنه لا يلغي المخاطر.

فقد حذّرت فرنسا وألمانيا والبنك المركزي الأوروبي من أن المساس المباشر بهذه الأصول – أو التوسع في استخدامها – قد يقوّض الثقة بالنظام المالي الغربي حسب اطلاع بقش، ويدفع بعض الدول، خصوصاً الصين ودول الجنوب العالمي، إلى سحب احتياطاتها من بنوك أوروبا والولايات المتحدة، ما قد يُفكك النظام المالي العالمي القائم على الدولار واليورو.

من يستفيد فعلاً من الأموال الروسية؟

الهدف المعلن هو تمويل الجيش الأوكراني ودعم صناعة الدفاع المحلية وتمويل إعادة الإعمار.

وفق تقديرات صندوق النقد الدولي التي تتبَّعها بقش، تحتاج أوكرانيا إلى نحو 65 مليار دولار خلال السنوات الأربع القادمة لتغطية فجوة التمويل في الموازنة، وهو مبلغ لا يمكن تأمينه دون هذه القروض الأوروبية.

بعض القادة الأوروبيين يرون أن هذا التمويل يجب أن يُخصص للمشتريات العسكرية، خصوصاً أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يطالب بأنظمة دفاع جوي وصواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسي.

من جهته، يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – الذي علّق دعم بلاده المباشر لكييف – أن تتحمل أوروبا العبء المالي الكامل لتسليح أوكرانيا، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى إطلاق برنامج مشتريات خاص لتمكين كييف من شراء أسلحة أمريكية بأموال أوروبية.

بذلك، تصبح الأرباح الروسية المحتجزة في الغرب هي التي تموّل صفقات السلاح الأمريكية الموجّهة ضد موسكو، في مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراعات الحديثة.

ردّ موسكو.. “سرقة بثوب قانوني”

في المقابل، ترى روسيا أن هذه الخطة تمثل “مصادرة غير مباشرة” وخرقاً واضحاً للقانون الدولي وحرمة الملكية الخاصة.

وصف الكرملين الخطوة بأنها “سرقة مقنّعة” تهدف إلى شرعنة نهب الثروات الروسية، محذراً من أن موسكو ستردّ بالمثل عبر مصادرة أصول الدول “غير الصديقة” الموجودة داخل روسيا.

وبالفعل، وقّع الرئيس فلاديمير بوتين مرسوماً في أكتوبر 2025 يتيح البيع السريع للأصول الأجنبية الخاضعة لإدارة الدولة الروسية، بما يشمل شركات غربية عاملة في البلاد، تحت مبرر “الرد المتكافئ على الإجراءات العدائية”.

كما هدّد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مدفيديف، بأن أي مصادرة أو استغلال لأموال روسيا “سيعتبر عملاً عدائياً يعادل إعلان حرب اقتصادية شاملة”، محذراً من أن الردّ قد يشمل “تأميم شركات غربية كبرى ومصادرة ممتلكاتها داخل روسيا”.

سابقة مالية أم نموذج جديد في الحروب؟

يستند الاتحاد الأوروبي في تبريره إلى سوابق أمريكية، مثل مصادرة أموال العراق بعد عام 2003 واستخدامها لدفع رواتب الحكومة الجديدة، أو تجميد الأموال الكوبية في التسعينيات لتعويض عائلات ضحايا أمريكيين.

لكن هذه الحالات كانت محدودة الحجم ومحكومة بقرارات أممية أو قضائية، بينما تتعامل أوروبا الآن مع احتياطات سيادية هائلة لدولة كبرى تملك سلاحاً نووياً ومقعداً دائماً في مجلس الأمن.

لهذا يعتبر خبراء القانون الدولي أن استخدام أرباح الأصول المجمدة – دون مصادرتها – يمثل ابتكاراً مالياً جديداً في زمن الحروب، يُعيد تعريف حدود السيادة الاقتصادية.

ويرى البعض أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام نهج مشابه في نزاعات مستقبلية، حيث تُستخدم الأموال المجمدة كأداة ضغط أو تمويل في النزاعات دون اللجوء إلى المصادرة المباشرة.

يعكس الجدل حول الأصول الروسية المجمدة معركة أعمق من مجرد تمويل حرب: إنها معركة على مستقبل النظام المالي العالمي نفسه. فبينما تحاول أوروبا إيجاد طريقٍ قانوني لمساعدة أوكرانيا دون المساس بمبدأ “حرمة الملكية”، تكشف هذه الأزمة عن هشاشة الثقة التي يقوم عليها الاقتصاد الغربي، وعن حدود القوة المالية في مواجهة الجغرافيا السياسية.

ومهما بلغت براعة أوروبا في تصميم أدواتها القانونية، فإن موسكو تمتلك أوراق ضغطٍ مقابلة – من الطاقة إلى الحبوب إلى الأسواق الناشئة – تجعل من هذا الصراع الاقتصادي حلقة جديدة في حرب النفوذ بين الشرق والغرب.

وفي نهاية المطاف، تبقى الأموال الروسية المحتجزة في خزائن الغرب شاهدًا على عالمٍ يغيّر قواعده، حيث تتحول الأرصدة المجمدة إلى وقودٍ سياسيّ يُموّل حرباً لا تزال فصولها مفتوحة.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش