المال الأوروبي يعاقب تل أبيب… صناديق تقاعد كبرى تتخارج من إسرائيل في الذكرى الثانية لحرب غزة

تقارير | بقش
في تطور غير مسبوق في الساحة الاقتصادية الأوروبية، أعلنت صناديق تقاعد أوروبية كبرى عن قرارات حاسمة تقضي بالتخارج من استثمارات مرتبطة بأنشطة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، في خطوة تتزامن مع الذكرى الثانية لحرب غزة التي اندلعت في 07 أكتوبر 2023.
فقد أعلن صندوق التقاعد الهولندي “بي إم إي” (PME)، الذي تبلغ قيمة أصوله 68 مليار دولار، عن سحب استثمارات بقيمة 151 مليون يورو (177 مليون دولار) من شركات تمارس أنشطة داخل الأراضي المحتلة، مبرراً ذلك بمخاوف تتعلق بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. القرار يأتي في وقت تتزايد فيه الضغوط الحقوقية والسياسية على المؤسسات المالية الغربية لمراجعة ارتباطاتها بالاقتصاد الإسرائيلي.
يُمثّل هذا القرار تحولاً نوعياً في العلاقة بين رأس المال الأوروبي وتل أبيب، إذ لم تعد القضية الفلسطينية مجرد ملف سياسي في الخطاب العام الأوروبي، بل تحوّلت إلى عامل مؤثر في قرارات الاستثمار وإدارة المخاطر لدى أكبر صناديق التقاعد في القارة.
ويُتوقع أن يكون لهذا التحرك أصداء واسعة داخل الأسواق المالية، خصوصاً مع اتساع دائرة المؤسسات التي تعيد النظر في حيازاتها داخل إسرائيل أو الشركات المتعاملة معها.
اللافت أن هذه الخطوات تأتي بينما تحاول إسرائيل استعادة مكانتها الاقتصادية وسط تصاعد الإدانات الدولية.
فبينما ارتفعت مؤشرات الأسهم الإسرائيلية والشيكل، إلا أن صورة تل أبيب أمام المستثمرين الأوروبيين باتت تتآكل تدريجياً بفعل تقارير الأمم المتحدة والمحاكم الدولية التي تتهمها بارتكاب انتهاكات جسيمة في غزة والضفة الغربية.
تدقيق صارم يقود إلى قرارات حاسمة
أكد متحدث باسم صندوق PME أن القرار لم يكن عاطفياً أو سياسياً، بل جاء بعد عملية تدقيق شاملة ومشاورات امتدت لعدة أشهر. شمل هذا التدقيق دراسة دقيقة لأنشطة الشركات وتقييم مدى صلتها بانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد شمل القرار شركات بارزة مثل “بوكينغ هولدينغز” الأميركية، وشركة الأسمنت “سيمكس”، وشركة معدات الاتصالات “موتورولا سوليوشنز”. وقد اعتبر الصندوق أن أنشطة هذه الشركات تثير شبهات جدية فيما يتعلق بتورطها في دعم الاستيطان أو تقديم خدمات تساهم في استمرار الوضع غير القانوني على الأرض.
وأشار المتحدث إلى أن محادثات السلام المرتقبة في مصر بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لن تغير موقف الصندوق، مؤكداً أن قرار التخارج يستند إلى معايير ثابتة تتعلق بالحوكمة وحقوق الإنسان، لا إلى التطورات السياسية المؤقتة.
كما أوضح أن هذه الحيازات المستبعدة كانت تضم أسهماً وسندات بقيمة 151 مليون يورو بنهاية يونيو، ما يعكس جدية القرار وحجمه المالي الكبير.
هذا النوع من التدقيق يشير إلى أن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) لم تعد مجرد شعارات تسويقية، بل أدوات ضغط فعالة يمكن أن تؤثر على تدفقات رأس المال نحو أو بعيداً عن مناطق النزاعات.
تصاعد المخاطر القانونية والضغوط الحقوقية
القرار الهولندي جاء في سياق موجة أوسع من الضغوط الحقوقية والقانونية التي تواجهها المؤسسات المالية الأوروبية بشأن أنشطتها في إسرائيل. فقد سبق أن أعلن صندوق التقاعد الهولندي الأكبر “ABP” عن بيع حصته في شركة كاتربيلر في يونيو الماضي، بعد تقارير حول استخدام جرافاتها في هدم الممتلكات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة.
كما أكدت شركة سيمكس أنها لا تملك عمليات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشيرة إلى التزامها بالقانون الدولي، بينما امتنعت شركات مثل بوكينغ وموتورولا عن الإدلاء بتعليقات، في مؤشر على حساسية الملف وتزايد الضغط الإعلامي والسياسي.
في فرنسا، رفعت منظمة حقوقية دعوى قضائية ضد بنك BNP Paribas، متهمة إياه بانتهاك “قانون واجب اليقظة” الفرنسي لعدم كشفه أنشطته التي يُزعم أنها تدعم المستوطنات.
وأكد البنك التزامه بالقانون، لكنه أعرب عن أسفه لاختيار المنظمة طريق القضاء بدل الحوار. هذه القضية تعتبر سابقة قانونية يمكن أن تفتح الباب أمام موجة واسعة من الدعاوى المشابهة ضد مؤسسات مالية أوروبية خلال العامين المقبلين.
النرويج تنضم إلى موجة الاستبعاد
في أغسطس الماضي، قرر صندوق الثروة السيادي النرويجي، الذي يدير أصولاً تتجاوز تريليوني دولار، إدراج شركة كاتربيلر على قائمته السوداء، مستنداً إلى استخدامها في تدمير ممتلكات فلسطينية. القرار النرويجي أثار استياء الحزب الجمهوري الأمريكي، الذي هدد باتخاذ إجراءات انتقامية، لكنه لم يثنِ الصندوق عن المضي قدماً.
توليا ماتشادو هيلاند، رئيسة قسم حقوق الإنسان في ستوربراند لإدارة الأصول، قالت إن فريقها يُجري حالياً تحليلاً لـ37 شركة، بينها شركات تكنولوجيا أميركية كبرى، تمهيداً لاستبعاد محتمل، مؤكدة أن «العمل في مناطق النزاع يتطلب مسؤولية مضاعفة لتقييم كيف يمكن أن تسهم المنتجات أو الخدمات في النزاع».
هذه الخطوات تعكس تحولاً مؤسسياً عميقاً في رؤية المؤسسات المالية الأوروبية لدور رأس المال في مناطق النزاعات. لم يعد بالإمكان تجاهل المخاطر الحقوقية والسياسية كما كان في السابق، خصوصاً مع اتساع دائرة المتابعة القانونية والإعلامية في أوروبا.
حرب غزة… نقطة تحوّل في المزاج الاستثماري الأوروبي
منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، وسّعت إسرائيل عملياتها العسكرية والاحتلالية في الضفة وغزة، وسط تقارير أممية وصفت ما يجري بأنه «إبادة جماعية». في سبتمبر 2025، أكدت لجنة مستقلة تابعة للأمم المتحدة ارتكاب إسرائيل لهذه الجريمة، بعد عام من صدور حكم محكمة العدل الدولية باعتبار احتلالها للأراضي الفلسطينية غير قانوني.
رغم هذه الاتهامات، حافظ الاقتصاد الإسرائيلي على أداء قوي من حيث المؤشرات المالية: ارتفع مؤشر TA-35 بأكثر من 30% منذ بداية العام، وصعد الشيكل 10% أمام الدولار.
لكن هذه الأرقام لا تعكس التحولات العميقة في المزاج الاستثماري العالمي تجاه إسرائيل، إذ تتزايد عزلة تل أبيب في الأسواق الأوروبية مع إدراج الأمم المتحدة 158 شركة ضمن قائمة “الأنشطة عالية المخاطر” في المستوطنات، ودراسة إضافة 381 شركة أخرى.
يرى مراقبون أن التحركات الأخيرة لصناديق التقاعد ليست معزولة، بل تمثل بداية مسار طويل من إعادة التموضع الأوروبي، حيث تتحول الاعتبارات الحقوقية من هامش نقاش إلى عامل مركزي في قرارات الاستثمار.
موجة قادمة من الدعاوى والتخارجات
تتوقع مؤسسات قانونية أوروبية أن يشهد عام 2026 موجة كبيرة من الدعاوى القضائية والاستبعادات الاستثمارية في أوروبا، مع تصاعد الضغط من المنظمات الحقوقية وتغير المزاج السياسي العام.
وقال سام جونز، رئيس مؤسسة Heartland Initiative، إن مؤسسته تتلقى استفسارات غير مسبوقة من مديري أصول يديرون 1.5 تريليون دولار، يسعون لتقييم تعرضهم للمخاطر القانونية المرتبطة بالملف الإسرائيلي.
في الوقت ذاته، تتزايد الدعوات داخل الأوساط المالية الأوروبية لاعتماد معايير أكثر صرامة فيما يتعلق بالاستثمار في مناطق النزاع، لا سيما في ضوء تنامي الاتجاه العالمي لربط رأس المال بمسؤوليات حقوق الإنسان.
هذه التطورات تضع إسرائيل أمام موجة جديدة من العزلة الاقتصادية التدريجية، قد لا تكون فورية أو شاملة، لكنها تراكمية وعميقة التأثير على المدى المتوسط والطويل، خصوصاً إذا تبنت مؤسسات مالية إضافية في أوروبا سياسات مماثلة لصندوق PME والصندوق النرويجي.