الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

النفط الروسي يختبر استقلالية القرار الهندي وسط ضغوط أمريكية متزايدة

الاقتصاد العالمي | بقش

رغم الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، التي رفعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى 50%، ما زالت الهند ماضية في استيراد النفط الروسي بكميات ضخمة. السبب بسيط لكنه جوهري: الخصومات التي تعرضها موسكو تجعل الخام الروسي أقل تكلفة مقارنةً بالمصادر الأخرى، وهو ما يمنح الاقتصاد الهندي متنفساً ضرورياً في ظل احتياجات متزايدة للنمو وتوسع صناعي غير مسبوق.

زيارة وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار إلى موسكو جاءت لتؤكد هذا الخيار، حيث أعلن الجانبان توسيع التعاون في مجالات الطاقة والتجارة وفق اطلاع مرصد بقش. ومن المتوقع أن يعزز هذا التعاون مع القمة الثنائية المزمعة لاحقاً هذا العام بين رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الهند تعيش حالة من “التحوط الاستراتيجي”، فهي جزء من تحالفات تقودها أمريكا مثل “الرباعية”، لكنها في الوقت نفسه شريك أساسي في مجموعة “بريكس” التي تضم روسيا والصين. هذا المزيج يعكس فلسفة نيودلهي القائمة على تنويع الشركاء بدلاً من الارتهان لمحور واحد.

لكن ضغوط ترامب تهدد هذا التوازن. فالهند لا ترى أي مكاسب ملموسة من تقليص وارداتها النفطية من موسكو، خصوصاً أن واشنطن لم تفتح بعد أسواقها الزراعية للمنتجات الهندية، ولم تقدم حوافز تجارية بديلة. وفي المقابل، ترى نيودلهي أن استمرار استيراد النفط الروسي يحميها من صدمات أسعار الطاقة العالمية التي ارتفعت منذ الحرب في أوكرانيا.

موسكو تتحول إلى رابع أكبر شريك تجاري

قبل عام 2021، لم تكن روسيا ضمن كبار شركاء الهند التجاريين. لكن خلال ثلاث سنوات فقط، وبفضل تدفقات النفط المخفض، أصبحت موسكو الشريك التجاري الرابع للهند. وفي حين تستورد نيودلهي مئات الملايين من البراميل سنوياً، ما تزال صادراتها إلى روسيا محدودة نسبياً، إذ تتركز في الأدوية والمنتجات الزراعية والمنسوجات. وتسعى الحكومة الهندية إلى تصحيح هذا الخلل من خلال دفع موسكو لاستيراد المزيد من السلع الهندية.

العلاقة مع روسيا لا تقف عند النفط. فهي ما تزال المورد الرئيسي للأسلحة الهندية. أنظمة الدفاع الجوي S-400 الروسية شكّلت فارقاً في المواجهات مع باكستان، والمخزون العسكري الهندي ما زال يعتمد بشكل كبير على منصات روسية الصنع. أي تراجع في التعاون العسكري سيكلف الهند مليارات الدولارات لإيجاد بدائل غربية أو محلية.

إضافة إلى ذلك، ترى نيودلهي في موسكو ثقلاً موازناً في مواجهة الصين. ورغم أن اعتماد روسيا المتزايد على بكين يثير قلقاً في الهند، إلا أن قطع العلاقات بالكامل مع موسكو قد يدفعها أكثر إلى أحضان الصين، وهو ما تعتبره نيودلهي تهديداً استراتيجياً خطيراً.

إرث من الثقة والذاكرة التاريخية

العلاقة بين البلدين مبنية على إرث طويل من الدعم المتبادل. روسيا وقفت إلى جانب الهند خلال حرب بنغلاديش عام 1971، وحمتها من عزلة دبلوماسية وضغوط أمريكية في ذلك الوقت. كما أنها كانت المزود الرئيسي للأسلحة خلال سنوات الحظر الغربي. هذه الذاكرة التاريخية تجعل من الصعب على صناع القرار في نيودلهي التخلي عن موسكو بسهولة.

ومع تصاعد العقوبات الأوروبية والضغط الأمريكي، يتقلص مجال المناورة أمام الهند. ترامب، المعروف بتقلب سياساته التجارية، قد يستخدم ورقة النفط كوسيلة ضغط إضافية، سواء عبر رسوم جديدة أو عبر تهديدات في مجالات أخرى مثل التجارة الزراعية أو تكنولوجيا المعلومات.

ومع ذلك، لا تبدو نيودلهي مستعدة للتراجع وفق قراءات بقش. فحماية النمو الاقتصادي المحلي تبقى أولوية قصوى، والنفط الروسي الرخيص هو مفتاح هذه المعادلة. بالنسبة للهند، فإن الاستقلال الاستراتيجي لا يعني تحدي أمريكا بشكل مباشر، بل إيجاد توازن يسمح لها بالبقاء لاعباً مستقلاً في نظام دولي مضطرب.

كيف واجهت دول أخرى ذات الضغوطات؟

الهند ليست الدولة الوحيدة التي وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع الضغوط الأمريكية بسبب خياراتها في الطاقة. تجارب دول أخرى تكشف أن سياسات “التحوط” أمام واشنطن أصبحت سمة متكررة في عالم تتغير موازينه بسرعة.

تركيا على سبيل المثال، واجهت ضغوطاً مشابهة عندما اشترت منظومة الدفاع الروسية S-400 رغم اعتراضات حادة من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. أنقرة بررت قرارها بأنه “خيار سيادي” لتأمين دفاعاتها الجوية، بينما ردت واشنطن بفرض عقوبات محدودة واستبعاد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة F-35.

لكن في ملف الطاقة، واصلت تركيا تعزيز شراكاتها مع روسيا عبر مشروعات استراتيجية مثل خط أنابيب “ترك ستريم” لنقل الغاز، لتؤكد أنها غير مستعدة للتنازل عن مصالحها الحيوية رغم الضغوط. هذه التجربة تعكس أن الدول متوسطة القوة مثل أنقرة ونيودلهي تتعامل مع الضغوط الأمريكية بمنطق الموازنة، لا الانصياع.

أما البرازيل، فقد أظهرت موقفاً أكثر براغماتية. فهي، مثل الهند، عضو في مجموعة بريكس وتحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا والصين، لكنها في الوقت نفسه تحرص على عدم قطع خطوطها مع واشنطن. ففي قطاع الطاقة، تجنبت برازيليا الانخراط في سياسات العقوبات، وحافظت على تعاملات متوازنة تراعي مصالحها الداخلية، خصوصاً أن قطاع النفط والغاز البرازيلي يعد من الأعمدة الرئيسية لنموها الاقتصادي حسب متابعات بقش. الضغوط الأمريكية لم تُترجم إلى مواجهات مباشرة كما في حالة تركيا، لكنها ظلت حاضرة في كواليس العلاقات التجارية والمالية.

ما يربط بين الهند وتركيا والبرازيل هو أن الطاقة أصبحت ورقة سيادة. كل دولة واجهت واشنطن بطريقتها الخاصة، لكن الخيط المشترك هو أن القبول بالضغوط الأمريكية لم يعد خياراً سهلاً، لأن الثمن الاقتصادي والسياسي سيكون باهظاً. بالنسبة للهند، كما لتركيا والبرازيل، فإن الاستقلالية في قرارات الطاقة تمثل اختباراً جوهرياً لمكانتها كقوة صاعدة في النظام الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش