الهند والصين تنقذان سوق النفط من صدمة الفائض… وشحنات الشرق الأوسط تجد مشترين رغم الضغوط الأمريكية

الاقتصاد العالمي | بقش
دخلت أسواق النفط العالمية أسابيع من الارتباك بفعل فائض المعروض وتراجع الأسعار، إلا أن التدفقات المتجهة إلى الصين والهند منحت المنتجين متنفساً مؤقتاً بعدما وجدت الشحنات الشرق أوسطية التي بقيت بلا مشترين طريقها إلى مصافي آسيا. ويأتي هذا التحول في ظل تزايد الضغوط على السوق العالمية منذ بداية العام، حيث هبط خام برنت بنحو 15%، وهو من أسوأ أداء للسلع خلال 2025.
ورغم أن الفائض الضاغط سببه مزيج من زيادة إنتاج “أوبك بلس” وتوسّع الإمدادات من الخارج، فإن التشديد الأمريكي على النفط الروسي أعاد رسم خريطة الطلب، ودفع العديد من المصافي الآسيوية نحو شراء شحنات إضافية من الشرق الأوسط لتعويض صعوبة الوصول إلى الخام الروسي. هذا التداخل السياسي ـ الاقتصادي منح المنتجين في الخليج فرصة لتصريف الكميات الفائضة، وإن كان ذلك لا يبدد هشاشة السوق.
وبينما تستمر مؤشرات الأسعار في تسجيل إشارات هبوطية، يبقى الطلب الآسيوي آخر خطوط الدفاع أمام الأسواق المتراجعة، خصوصاً مع عودة شحنات الإمارات والكويت وقطر إلى التداول بعد أن بدت بلا مشترٍ في بداية نوفمبر حسب اطلاع مرصد بقش. ومع ذلك، لا تزال النظرة العامة للربع الأخير من العام محمّلة بالضبابية، وسط توقعات بمزيد من الضغوط على الفروقات السعرية.
فائض عالمي يضغط على الأسعار ويكشف هشاشة السوق
شهد خام برنت تراجعاً بنحو 15% منذ مطلع العام، بفعل وفرة المعروض واتساع الإمدادات من “أوبك بلس” والمنتجين خارج التحالف، ما جعل النفط واحداً من أسوأ السلع أداءً في 2025 وفق البيانات التي يتتبَّعها بقش. ومع توقعات وكالة الطاقة الدولية ببلوغ الفائض مستويات قياسية، دخلت العقود الأقرب للخام الأمريكي في حالة “كونتانغو”، وهي إشارة تؤكد توقعات السوق بانخفاض الأسعار مستقبلاً.
هذا التدهور في مؤشرات الأسعار يعكس هشاشةً عميقة في التوازن بين العرض والطلب، خاصة في ظل ضعف قدرة السوق على امتصاص الصدمات الناتجة عن زيادة الإمدادات. كما زاد الضغط على السوق بعد خطوات واشنطن الأخيرة التي استهدفت تضييق الخناق على صادرات النفط الروسي، مما أربك مسارات التجارة العالمية ودفع بعض المشترين التقليديين نحو البحث عن بدائل جديدة ضمن نطاق الشرق الأوسط.
وبينما تتصاعد موجة البيع في بعض المناطق، فإن حالة القلق السائدة تمنح رسالة واضحة للمنتجين: السوق يتجه نحو مرحلة أطول من التقلبات، وأن أي انتعاش مرهون بعودة التوازن بين العرض والطلب، وهو ما لا تظهر مؤشراته حتى الآن.
أكد تجّار في السوق أن الشحنات الخام التي بقيت بلا مشترٍ في بداية نوفمبر -خصوصاً خام “زاكوم العلوي” الإماراتي والكميات الإضافية القادمة من الكويت بعد تعطل مصفاة الزور- وجدت طريقها إلى مصافي الصين والهند، ما خفّف الضغط عن المنتجين في الخليج بعد أسابيع من الركود.
المصافي الصينية لعبت دوراً محورياً في امتصاص كميات كبيرة من الشحنات الخليجية، بينما نفذت شركات التكرير الهندية سلسلة من المناقصات التي شملت خامات من الشرق الأوسط وأفريقيا الغربية والولايات المتحدة. وبرزت “بهارات للبترول” و“إتش بي سي إل-ميتال إنرجي” كأبرز المشترين خلال الفترة الأخيرة، في وقت تُظهر فيه البيانات أن الطلب الآسيوي هو الأكثر استقراراً مقارنة بالأسواق الأوروبية.
وبينما وجد المنتجون منفذاً مؤقتاً لتصريف الشحنات، تبقى هذه الحركة مرهونة بالطلب الآسيوي وحده، وهو طلب قد يتأثر بتباطؤ الاقتصاد الصيني أو بتقلبات أسعار الوقود المحلية، ما يجعل الاعتماد عليه حلاً قصير الأمد لا يعالج جذور الأزمة.
مؤشرات الأسعار لا تزال سلبية رغم تحسّن التدفقات
رغم تحسّن حركة الشراء الأخيرة، فإن الفروقات السعرية بين خامات الشرق الأوسط ومرجعيات التسعير الرئيسية أظهرت تراجعاً مستمراً. فحسب متابعة بقش، ضاقت الفروقات بين خامي عمان و“زاكوم العلوي” وبين مؤشر دبي، بينما تداول خام برنت -للمرة الأولى منذ سنوات- بخصم نادر مقارنة بدبي، ما يعكس ضغطاً هيكلياً على الأسعار.
وتشير بيانات “جنرال إندكس” التي طالعها بقش إلى أن الانخفاض في الفروقات ليس مؤقتاً، بل اتجاه ممتد خلال الشهر، وسط منافسة متزايدة بين المنتجين على جذب المشترين الآسيويين عبر تخفيضات مباشرة أو عبر تسهيلات تسعيرية. وفي ظل غياب محفزات قوية لارتفاع الأسعار، يصبح هذا الضيق في الفروقات إشارة على استمرار حالة التشبع في السوق.
كما أن استمرار تدفقات النفط من غرب أفريقيا وأمريكا اللاتينية بأسعار تنافسية زاد من الضغوط على خامات الشرق الأوسط، ما دفع المنتجين إلى إعادة تقييم استراتيجيات التسويق في ظل سوق عالمية تتجه بسرعة نحو مستويات جديدة من التنافس.
في غرب أفريقيا، سجّل السوق تباطؤاً واضحاً نتيجة تراجع الفروقات السعرية، بينما واصلت الهند وإندونيسيا شراء ما يقارب 11 شحنة أسبوعياً، في حين زادت الصين مشترياتها من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتؤكد أن آسيا هي محور الطلب الأكثر ثباتاً في الوقت الذي تواجه فيه مناطق أخرى انكماشاً ملحوظاً في النشاط.
أما في بحر الشمال، فقد كان المشهد أكثر هشاشة، حيث شهد خام برنت عمليات بيع مكثفة خلال نوافذ التداول الرئيسية. هذا الضغط ينسجم مع اتجاه أوسع يعكس ضعف قدرة السوق الأوروبية على استيعاب الشحنات في ظل وفرة المعروض وتباطؤ الطلب الصناعي في القارة.
وتُظهر برامج التحميل التي جمعتها بلومبرغ أن متوسط شحنات 13 درجة رئيسية في ديسمبر قد يقفز إلى 2.1 مليون برميل يومياً، وهو أعلى مستوى منذ ثماني سنوات، ما يعني أن السوق العالمية تستعد لدخول مرحلة أكثر صعوبة مع تدفقات كبيرة قادمة في وقت يعاني فيه الطلب من التباطؤ.
رغم الدور الحاسم الذي لعبته الصين والهند في امتصاص الفائض من الشحنات الشرق أوسطية، فإن هذه “الهدنة” تبدو مؤقتة في ظل ضعف المؤشرات السعرية وارتفاع مستويات التحميل المتوقعة خلال الأسابيع المقبلة. وتبقى السوق العالمية عرضة لتقلبات إضافية طالما بقيت الفروقات السعرية تحت الضغط وواصل المنتجون ضخ الإمدادات دون بوادر واضحة لاستعادة التوازن.
وفي ظل هذه الظروف، تبدو أسواق النفط مقبلة على نهاية عام ثقيل، حيث تتقاطع الضغوط الجيوسياسية مع تخمة الإمدادات، بينما يظل الطلب الآسيوي وحده القادر على منع السوق من دخول مرحلة أكثر اضطراباً.


