
تحت ذريعة استهداف القوة العسكرية لـ”الحوثيين” المصنفين كمنظمة إرهابية أجنبية، تواصل الولايات المتحدة الأمريكية استهداف المنشآت الاقتصادية الأكثر حيوية في اليمن، والتي يؤكد اقتصاديون أن الهدف من ضربها ليس بالضرورة إضعاف المصادر الاقتصادية لقوة الحوثيين، بل يمتد بوضوح وبصورة مدروسة إلى تدميرٍ أكبر للبنية التحتية للبلاد وإضعاف الحالة المعيشية المتردية بالأساس للمواطنين اليمنيين الذين يعانون في المنتصف كضحايا لويلات الحرب.
حالة من الحزن المفجع اجتاحت محافظة الحديدة واليمن، بعد أن شن الجيش الأمريكي غارات عنيفة على ميناء “رأس عيسى” النفطي في المحافظة، والتي سقط على إثرها أكثر من 80 شهيداً معظمهم من العمال في المنشأة النفطية، و150 جريحاً على الأقل، في أكثر الهجمات الأمريكية دمويةً. وزعم الجيش الأمريكي أن “الغارات استهدفت قَطْع الإيرادات عن الحوثيين”، وأن “ميناء رأس عيسى حوّل أرباحاً غير مشروعة إلى الجماعة منذ دخول تصنيفها حيز التنفيذ في 05 أبريل”، إلا أن واشنطن لم تدعم تصريحاتها هذه بأدلة على ذلك.
وقال متعاملون تجاريون في الحديدة لـ”بقش” إن الولايات المتحدة لم تدعم تصريحاتها بخصوص “وجود عسكري كثيف” في ميناء رأس عيسى بأدلة ملموسة، مشيرين إلى أهمية الميناء باعتباره مركزاً رئيساً لواردات الوقود، وأن تدميره يمثل تحدياً كبيراً للقطاع الخاص وعمليات الشحن التجاري.
وعلم مرصد “بقش” أن ضحايا القصف هم من العمال والفنيين في الميناء، وموظفين في شركة صافر النفطية التي تدير الميناء، وشركة النفط اليمنية المسؤولة عن الإشراف على شحنات الوقود المستوردة وتوزيعها.
وأُعلن عن توقف نشاط ميناء رأس عيسى الذي تبلغ سعته التخزينية نحو 3 ملايين برميل. وقالت مؤسسة “موانئ البحر الأحمر اليمنية” إن القصف الأمريكي تسبب في أضرار كبيرة بالميناء، وأدى إلى تعطيل نشاطه الحيوي، ما سينعكس سلباً على حركة الملاحة والإمدادات النفطية ويضاعف من معاناة اليمنيين، معتبرةً أن القصف الأمريكي جريمة تضاف إلى سلسلة الانتهاكات الممنهجة التي تطال موانئ البحر الأحمر منذ العام 2015.
من جهتها حذّرت وزارة الزراعة والثروة السمكية والموارد المائية بحكومة صنعاء، من مخاطر التلوث البحري الناجم عن القصف الأمريكي، مشيرةً إلى أن القصف أدى إلى تدمير مرافق الميناء والتخزين، ما تسبب في تسرُّب كميات كبيرة من النفط إلى مياه البحر، وذلك يُنذر بوقوع كارثة بيئية وشيكة في البحر_الأحمر قد تُدمر النظام البيئي البحري وتهدد الثروة السمكية التي تُعد مصدر رزق لمئات الآلاف من الأسر اليمنية. أضافت الوزارة: “انتشار بقع التلوث النفطي قد يؤدي لإغلاق مناطق صيد واسعة ويعطل النشاط البحري ويؤثر على الأمن الغذائي في اليمن”.
استهداف موانئ حيوية لا غنى عنها
أقرَّ الجيش الأمريكي -الذي يطالب الحوثيين بوقف هجمات البحر الأحمر- بأنّه يهدف من شنّ غاراته على منشأة رأس عيسى النفطية، إلى عرقلة تأمين الوقود لليمنيين، وقال إنه “يجب توفير الوقود بشكل شرعي”، رغم أن شحنات وقود تابعة لتجار من القطاع الخاص توافدت منذ شهر مارس الماضي إلى ميناء رأس عيسى بمعدل يتجاوز 15 سفينة وانتظرت بشكل قانوني دورها في التفريغ وفقاً لصور الأقمار الصناعية التي تابعها بقش.
وبموجب العقوبات الأمريكية، فإن حركة استيراد الوقود إلى موانئ الحديدة -اعتباراً من 05 أبريل الجاري- تحتاج إلى تراخيص خاصة تصدرها الخزانة الأمريكية لتفادي العقوبات، وفق متابعات بقش.
وتستهدف الولايات المتحدة، ومن قبلها إسرائيل، موانئ الحديدة التي تُعد بوابة رئيسة لوصول الغذاء وغيره من الضروريات إلى السكان الذين يعتمدون بنسبة 90% على الواردات. ويمر عبر موانئ الحديدة نحو 70% من واردات اليمن التجارية، و80% من المساعدات الإنسانية. وسبق وأكد المسؤول المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي “أوكي لوتسيما” إن موانئ الحديدة “حاسمة للغاية للأنشطة التجارية والإنسانية”. ووصفت “روزماري دي كارلو”، وكيلة الأمين العام لإدارة الشؤون السياسية وبناء السلام التابعة للأمم المتحدة، موانئ الحديدة بأنها “شريان حياة لملايين الأشخاص” ويجب أن تكون “مفتوحة وعاملة”.
ونهاية العام الماضي 2024، أدت الضربات الإسرائيلية على موانئ الحديدة (الحديدة والصليف ورأس عيسى)، إلى تراجع واردات الوقود إلى مناطق حكومة صنعاء بنسبة 73% وفق اطلاع بقش على بيانات الأمم المتحدة، وتوقف ميناء الحديدة عن استقبال أي سفينة وقود بفعل الغارات الإسرائيلية التي دمرت مخازن للوقود.
هذه الحالة من الاستهداف المنظم لموانئ الحديدة وصفها المحلل الاقتصادي “أحمد الحمادي” بأنها تأتي ضمن عدة سياقات، أبرزها إعاقة الحركة التجارية اليمنية بشكل شبه كامل، وضخ دماء الأزمة في عروق الاقتصاد والمعيشة بشكل أعنف، وفرض نفوذ أمريكي واسع النطاق على الموانئ والمنطقة البحرية، وفقاً لحديثه لـ”بقش”.
أضاف الحمادي بقوله إن الأمم المتحدة ذات دور محدود فيما يتعلق بملف موانئ الحديدة، وإن عليها تحمُّل مسؤولية أخلاقية إزاء ما يحدث من استهداف للمنشآت الاقتصادية اليمنية، مشيراً إلى أن “الجميع، بمن فيهم واشنطن، يعلمون أن الذين يتواجدون في ميناء رأس عيسى النفطي هم العمال الذين على رأس عملهم لممارسة الخدمة الحيوية واستيعاب الاحتياجات، لكن الولايات المتحدة قررت استهداف المنشأة بعمالها وفنييها، ضاربةً على الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية، وهو ما يزيد من تعقيد الأزمات بما فيها الأزمة البحرية”.
وجه آخر لضرب الاقتصاد: الاستهداف المصرفي
في إطار عملية الاستهداف الأمريكي، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية” الخميس، فرض عقوبات على “بنك اليمن الدولي”، أحد أكبر البنوك التجارية في اليمن، والمسؤولين الرئيسيين لدى البنك، وقالت إن العقوبات تأتي ضمن الجهود الحكومية الأمريكية لإيقاف الهجمات في البحر الأحمر.
استهدف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع للخزانة الأمريكية مسؤولي البنك كمال حسين الجبري، وأحمد ثابت العبسي، وعبدالقادر بازرعة، وقال إن البنك يدعم وصول الحوثيين إلى النظام المالي الدولي.
هذا التصنيف الأخير جاء بعد أن تم فرض عقوبات على “بنك اليمن والكويت” في 17 يناير 2025، ضمن سلسلة إجراءات أمريكية أكد اقتصاديون أنها تستهدف توجيه ضربة للاقتصاد اليمني المتأزم أصلاً بفعل الحرب.
ورأى المصرفي بسام اليمني، في حديث لـ”بقش”، أن العقوبات على البنوك اليمنية الكبرى ستفاقم معاناة المدنيين اليمنيين، وستؤدي إلى تعطل الواردات الحيوية من الغذاء والدواء والوقود.
وأشار إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تدرك عواقب عقوباتها على البنوك اليمنية كونها ستؤثر بشدة على البلاد، إلا أنها تمضي قدماً في العقوبات على كل حال. ويدعو اليمني إلى تحمل كافة الأطراف المسؤولية وتحييد البنوك والأعمال المصرفية والاقتصادية عن الصراع الراهن.
وقال مصدر مصرفي لـ”بقش” إن العقوبات تمثل عائقاً كبيراً أمام البنك من خلال عزله عن نظام المراسلات المصرفية العالمي “سويفت”، في إطار سياسة تحويل مسار أعمال البنوك إلى دائرة مغلقة على المستوى المحلي فقط.
أضاف المصدر، مفضلاً عدم ذكر هويته، أن العقوبات الأمريكية تزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، وترمي إلى الضغط على الواقع الاقتصادي والمصرفي في مناطق حكومة صنعاء بعد أن فشلت محاولات الطرف الآخر (في إشارة إلى حكومة عدن المدعومة من المملكة العربية السعودية) لنقل مراكز البنوك الرئيسية من صنعاء إلى عدن.
وفي رد رسمي، أصدر بنك اليمن الدولي بياناً، اليوم السبت، قال فيه إن يمارس أعماله المصرفية بمهنية منذ أكثر من 45 عاماً، مع التزام صارم بمعايير الامتثال الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وذكر البنك أنه سيواصل تقديم خدماته المصرفية المحلية وممارسة نشاطه رغم الظروف الصعبة والخارجة عن إرادته، وأنه سيتخذ كافة الإجراءات التي من شأنها الحد من أي آثار سلبية قد تترتب على القرار الأمريكي، مضيفاً أن أرصدة العملاء مضمونة بالكامل، وأنه يمتلك أصولاً وأرصدة لدى البنك المركزي وعدد من البنوك الأخرى تفوق حقوق المودعين والمساهمين.
وسيتخذ بنك اليمن الدولي، وفقاً لبيانه، الخطوات اللازمة بالتنسيق مع الجهات المعنية وعبر القنوات الرسمية إلغاء العقوبات وإخراجه من قوائم الـ”أوفاك” في أقرب وقت ممكن.
من جانبه علّق الخبير الاقتصادي، رشيد الحداد، بقوله إن العقوبات المعلنة على بنك اليمن الدولي لم تكن مفاجئة، خاصة بعد أن هددت حكومة عدن البنك بطريقة غير مباشرة بوضعه في “قائمة الانتقام”.
“وما حدث لبنك اليمن الدولي يؤكد أن الفجور في الخصومة وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح الاستقواء بالعقوبات الأمريكية جريمة كبرى بعد استغلالها من قبل أطراف الصراع” وفقاً للحداد في حديثه لـ”بقش”.
واختتم رأيه: “حكومة عدن هي من وقف وراء التحريض على بنك اليمن الدولي بذريعة رفضه نقل مقرة الرئيسي إلى عدن، واستغلت تعاونها مع الولايات المتحدة لضرب الأنشطة الخارجية لأهم البنوك اليمنية، وهذه الخطوة كانت متوقعة لأن الحكومة (المعترف بها دولياً) أوجدت بنوكاً بديلة وأسست نحو 13 بنكاً جديداً في المحافظات الجنوبية”، معتبراً أن “ما تقوم به الحكومة هو تصفية حسابات مع البنوك التي رفضت الانتقال إلى مناطق سيطرتها”.