
تقارير | بقش
لا تُحتمل المجاعة في غزة مع استمرار الحصار الإسرائيلي المطبق والتخاذل الحاصل عن إغاثة الفلسطينيين في القطاع المحاصر، فعلى وقع الغارات الإسرائيلية العنيفة والأزمة الإنسانية غير المسبوقة، بلغ الجوع وسوء التغذية مستويات كارثية، بينما لا تزال كميات المساعدات الإنسانية شحيحة بسبب الحصار المشدد وحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة.
يوم أمس الأحد كان أشبه بإعلان رسمي عن تفشي المجاعة في قطاع غزة، وكانت سيارات الإسعاف تدوّي بصوت واحد إنذاراً بالإعلان، في حين أحصت الجهات العاملة في القطاع أرقاماً مروعة لمن سقطو بأمعاء خاوية نتيجة النقص الشديد في الغذاء وسوء التغذية الشديد.
انتشرت صور ومشاهد كارثية من غزة لشهداء فارقوا الحياة نتيجة الجوع والحصار، إذ أظهرت الصور أطفالاً ونساء محرومين من أبسط مقومات الحياة، وسط الصمت العربي والدولي تجاه معاناة أهالي غزة. وتؤكد كافة وسائل الإعلام أن المجاعة تجاوزت كل المراحل، وأن غزة تموت جوعاً بشكل فعلي.
ويؤكد مكتب الإعلام الحكومي أن عدد الوفيات بسبب نقص الغذاء والدواء ارتفع إلى أكثر من 620 شخصاً بينهم أطفال ومصابون بأمراض مزمنة، منذ بدء الحرب على غزة.
وحسب ما يرصده “بقش” من مشاهد مؤلمة للمواطنين أثناء سعيهم للحصول على لقمة طعام، يفقد الفلسطينيون وعيهم على الهواء مباشرة من شدة الجوع، في مأساةٍ تجسد “العار على الإنسانية” كما وصفها الملك البلجيكي. وأمس الأحد فقط، استشهد 93 شخصاً على الأقل برصاص قوات الاحتلال أثناء انتظارهم للحصول على مساعدات غذائية، غالبيتهم في شمال القطاع حيث تتفاقم المجاعة والقيود على وصول المساعدات وفق متابعات بقش. كما تتزايد حالات موت الأطفال الرضع نتيجة الجوع الحاد ونقص التغذية.
برنامج الأغذية العالمي أكد أن حشوداً من منتظري المساعدات بغزة تعرضت لإطلاق نار من دبابات إسرائيلية وقناصة ومصادر أخرى، وأن من قُتلوا لم يفعلوا شيئاً سوى محاولة الحصول على غذاء وهم على شفا المجاعة التي بلغت مستويات غير مسبوقة بينما الناس يموتون.
وهناك واحد من بين كل ثلاثة أشخاص في قطاع غزة لا يتناول الطعام لمدة أيام، وناشد برنامج الأغذية المجتمع الدولي وكل الأطراف لتسهيل إيصال المساعدات الغذائية للمجوَّعين في غزة.
وتتزايد المجاعة في حين أن 88% من مناطق قطاع غزة تخضع لأوامر إخلاء إسرائيلية تنطوي على تهجير قسري للفلسطينيين، وحسب الأمم المتحدة فإن ما يسمى أوامر الإخلاء، ستؤثر على ما بين 50 و80 ألف فلسطيني يعيشون في المناطق المعنية بقطاع غزة.
ويأتي التخاذل العربي ليكشف عورة الأنظمة العربية التي لا تستجيب بشكل فاعل للواقع المؤلم وغير الإنساني، وتنخرط في السياسات الأمريكية والإسرائيلية وتكتفي ببيانات الشجب والإدانة -إن صدرت- دون اتخاذ موقف يحد من الكارثة الإنسانية التي تعمقها إسرائيل بشكل أكبر يوماً بعد آخر.
وفي الوقت الذي طولبت “مصر” بالعمل على إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، اكتفت الحكومة المصرية بقولها إن قطاع غزة يعاني من مجاعة وكارثة إنسانية بالفعل، وإن العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة سافر وغير مقبول وتجاوز كل الحدود. وأشارت الخارجية المصرية إلى أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة “خط أحمر” و”لن يتم السماح به تحت أي ظرف من الظروف”، وأن مصر تأمل التوصل قريباً إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس لوقف إطلاق النار.
دخول مرحلة “العطش”
أعلنت بلدية غزة دخول مرحلة العطش بعد توقف محطة التحلية الرئيسية شمالي مدينة غزة عن العمل بالكامل. وتوقف ضخ محطة مياه ميكروت عن العمل، إضافة إلى تفاقم أزمة الوقود، يضاعفان من أزمة العطش، جنباً إلى جنباً مع تفشي الجوع الكارثي.
وثمة مناطق واسعة لا تصلها المياه، وسط تحذيرات من كارثة إنسانية بعد توقف معظم الآبار، حيث إن 1.2 مليون نازح ومواطن مهددون بالعطش مع انهيار مصادر المياه وغياب الاستجابة الطارئة.
وتستخدم إسرائيل “العطش” و”الجوع” كسلاح ضد فلسطينيي غزة، وقد صعد جيش الاحتلال استهدافه لمحطات تحلية المياه القليلة الموجودة في القطاع بالتزامن مع سياسة التجويع المتواصلة منذ 02 مارس حسب متابعات بقش.
ومنذ ذلك الشهر، حذرت بلديات في قطاع غزة من أزمة مياه كارثية جراء نفاد الوقود اللازم لتشغيل الآبار القليلة العاملة، والتدمير المتعمد للبنى التحتية للمياه.
استنكار دولي للمجاعة الكاملة
لا تزال وسائل إعلام تتعاطى مع الموقف باعتبار غزة تقترب من المجاعة، إلا أن ما هو حاصل يؤكد على إطباق مجاعة كاملة على القطاع المحاصر.
وجددت وكالة “الأونروا” مطالبتها برفع الحصار لإنهاء المجاعة، وقالت إنها تتلقى رسائل يائسة عن المجاعة من غزة، “بما في ذلك من زملائنا”. وأفادت بـ”ارتفاع أسعار المواد الغذائية أربعين ضعفاً”، في إشارة إلى تداعيات الحصار المتواصل.
وأكدت الأونروا أنها تحتفظ بكمية كافية من الغذاء المخزّن في مستودعاتها لتغطية احتياجات جميع سكانها لأكثر من ثلاثة أشهر، وأن ذلك فقط يحتاج إلى رفع الحصار لإدخال المساعدات بأمان على نطاق واسع.
وانتقدت ألمانيا توزيع المساعدات التي تقدمها ما تسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” لأن طريقة توزيعها لا تتوافق مع المبادئ الإنسانية، وأكدت الحكومة الألمانية أن هذه الآلية “لا تصل بشكل كافٍ إلى السكان المدنيين، ولا تعمل بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية”.
ووصفت ألمانيا الوضع الإنساني في قطاع غزة بأنه لا يُطاق، قائلةً إنه يجب تخفيف معاناة السكان وتحسين الوضع الإنساني بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية والقانون الإنساني الدولي، مشيرة إلى أن أشخاصاً فقدوا أرواحهم أثناء محاولتهم الحصول على إمدادات الإغاثة، ودعت إلى تقديم تفسير شامل لتلك الأحداث المروعة في أقرب وقت.
وتتحمل إسرائيل مسؤولية الامتثال للقانون الإنساني الدولي وحماية المدنيين الفلسطينيين في غزة، وفقاً للحكومة الألمانية الحليفة لإسرائيل، ودعت إسرائيل إلى تسهيل استئناف توزيع المساعدات في غزة، وضمان قدرة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية على أداء عملها باستقلال وحياد.
كما صدر اليوم بيان مشترك لـ25 دولة عن بريطانيا طالب بإنهاء الحرب في غزة فوراً، مؤكداً أن معاناة المدنيين في غزة بلغت مستويات غير مسبوقة، وأن حرمان إسرائيل المدنيين في غزة من المساعدات الأساسية غير مقبول.
مع ذلك، يُمعن الإسرائيليون في بشاعة حربهم وحصارهم، إذ دعت وزيرة الاستيطان الإسرائيلية أوريت ستروك، اليوم الإثنين، إلى توسيع العدوان على قطاع غزة حتى لو هدد حياة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، وقالت ستروك من حزب “الصهيونية الدينية” اليميني المتطرف: “هناك منطقة بأكملها (لم تحددها)، حوالي 25% كما حددها رئيس أركان الجيش (إيال زامير)، صُنفت على أنها ممنوعة المساس بسبب وجود الرهائن (المحتجزين)، لكن لا يمكن كسب الحرب بهذه الطريقة، هذا غير منطقي”.
لكن إيال زامير، رئيس هيئة الأركان العامة الإسرائيلي، اعتقد في المقابل بتزايد إمكانية التوصل إلى وقف لإطلاق النار والتوصل لاتفاق للإفراج عن الأسرى، وقال إن الجيش الإسرائيلي مستعد لجميع السيناريوهات.
منذ 139 يوماً يقوم الاحتلال بإغلاق تام وكامل للمعابر ومنع كامل لدخول المساعدات الإنسانية، واستهدف 42 تكية طعام و57 مركزاً لتوزيع الغذاء موقعاً المئات من الضحايا الفلسطينيين، وهناك 650 ألف طفل معرضون اليوم للموت بسبب سوء التغذية الشديد، ويواجه أكثر من 12,500 مريض سرطان خطر الوفاة نتيجة نقص العلاج والغذاء، وتخلص المعلومات إلى أن أكثر من نصف شعب غزة مهدد في هذه المجاعة المتفشية، وسط استمرار أفخاخ الموت على صورة “مساعدات” مميتة، بينما يتخاذل الجوار العربي عن تقديم أدنى المساعدات للفلسطينيين الذين يشهدون هذه الإبادة.