بحار عاصفة للشحن العالمي.. اختفاء 576 حاوية العام الماضي و200 في جنوب أفريقيا وحدها

الاقتصاد العالمي | بقش
يشهد الشحن العالمي، الذي ينقل أكثر من 80% من تجارة البضائع في العالم، مرحلة حرجة مليئة بالتقلبات وارتفاع التكاليف وضغوط متزايدة على سلاسل التوريد. وتُظهر الأرقام الأخيرة والتقارير الأممية أن هذه المخاطر ليست سطحية أو عابرة، بل تمثل تهديداً متكاملاً للبنية الاقتصادية الدولية، وخصوصاً للدول النامية وأفريقيا.
وفي العام 2024 اختفت قرابة 200 حاوية في المياه الجنوبية لأفريقيا وفق اطلاع بقش، أي ما يعادل 35% من إجمالي 576 حاوية فُقدت عالمياً، ومثل هذا الرقم يبرز حجم التهديد الفعلي لسلسلة التوريد البحرية الأفريقية.
والسبب الأساسي هو إعادة توجيه السفن عبر رأس الرجاء الصالح تجنباً للمرور من البحر الأحمر بعد أن أغلقه الحوثيون على السفن الإسرائيلية والمرتبطة بإسرائيل. والأثر الفوري لذلك هو تأخير الشحنات، ارتفاع أسعار النقل، وضغط إضافي على المستوردين الأفارقة، الذين يتحملون تكاليف أقساط التأمين البحرية التي ارتفعت من 0.7% إلى 2% من قيمة السفينة خلال العام.
ويمكن القول إن هذه الخسائر ليست مجرد حادث عرضي، بل نتيجة تفاعل عوامل جيوسياسية ومناخية، فحسب تحليلات بقش زادت الأعاصير الموسمية في جنوب غرب المحيط الهندي من المخاطر، بينما أدى النزاع في الشرق الأوسط إلى إعادة توجيه السفن لمسافات أطول، ما زاد احتمالات فقدان البضائع وأطّر الشركات على تحميل المستهلكين تكلفة ذلك، وهو ما يزيد من الهشاشة الاقتصادية للأفارقة.
التجارة البحرية العالمية في “مرحلة نمو هش”
يشير تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” صدر اليوم الأربعاء واطلع عليه بقش، إلى أن التجارة البحرية العالمية دخلت مرحلة نمو هش، إذ من المتوقع أن يبلغ نموها 0.5% فقط في 2025 بعد ارتفاع قياسي في العام السابق (+6% في طن الأميال).
وأدت التعريفات الجديدة وقيود الموانئ إلى رحلات أطول، وتخطي مكالمات الموانئ، وارتفاع التكاليف. كما تمر تجارة الطاقة بمرحلة انتقالية، إذ يضغط التحول نحو إزالة الكربون على الفحم والنفط، بينما تتوسع تجارة الغاز.
وأصبحت المعادن الحيوية للبطاريات والطاقة المتجددة مصدر توتر جديد، إذ تتنافس الدول لتأمين الإمدادات، وهو ما يزيد من تعقيد سلسلة التوريد الدولية.
وتكشف إعادة تشكيل الجغرافيا التجارية تأثر الدول النامية بشكل أكبر بسبب ضعف قدرتها على التكيف مع التكاليف الجديدة، بينما تتحكم الدول الكبرى في شكل الطرق والمعايير البيئية والتكنولوجية، ما يزيد من فجوة القوة الاقتصادية بين الشمال والجنوب.
وثمة تحدٍّ تشغيلي يتمثل في الضغط على الموانئ، فهذا الضغط يظهر في ازدحام السفن، وتأخير الشحنات، وارتفاع تكاليف التشغيل. ورغم بدء بعض البلدان في اعتماد الأنظمة الرقمية مثل النوافذ البحرية الفردية، ما تزال غالبية الاقتصادات النامية متأخرة، ما يضاعف التأثير السلبي على التجارة المحلية والإقليمية.
والتأخر في الرقمنة لا يعكس فقط ضعف بنية تحتية، بل يمثل مخاطر استراتيجية على قدرة الدول النامية على المنافسة في التجارة العالمية، ويزيد من احتمالات وقوعها في حلقة ارتفاع التكاليف، ضعف الأداء، وفقدان الأسواق.
وثمة تحدٍّ مناخي، حيث ارتفعت انبعاثات الشحن بنسبة 5% في 2024، بينما لا تتجاوز نسبة الأسطول العالمي المجهز بالوقود البديل 8%. وإزالة الكربون من النقل البحري ليست خياراً بيئياً فقط، بل عامل اقتصادي وسياسي، فهي تزيد من تكاليف التشغيل، وتفرض على الدول والشركات الكبرى تحديد أولويات الاستثمار، بينما قد تتعرض الدول الضعيفة لمخاطر فقدان القدرة التنافسية إذا لم تتلق الدعم المالي والتقني المناسب.
انطباعات أزمة البحر الأحمر: المخاطر متصاعدة
في نفس الإطار، تركت أزمة البحر الأحمر انطباعات عميقة في الأسواق الدولية وصناعة النقل البحري، فوفقاً لتقارير “بقش”، عززت إعادة توجيه السفن حول رأس الرجاء الصالح وتأخيرات الشحنات، شعوراً دولياً بـ”الهشاشة اللوجستية” في المنطقة، خصوصاً في الموانئ الإفريقية والشرق أوسطية.
وتصاعد أسعار التأمين البحري -من 0.7% إلى نحو 2% من قيمة السفينة- أدى إلى زيادة تكاليف النقل وتحميل المستوردين هذه الأعباء، وهذه الزيادة تترك انطباعاً بأن البحر الأحمر أصبح “منطقة عالية المخاطر” على الرغم من أن الخسائر الفعلية ما زالت أقل مقارنةً بالتقديرات.
وهناك تأثير نفسي واقتصادي على المستثمرين، فالأسواق الدولية ترى البحر الأحمر كبؤرة عدم استقرار، مما يزيد من الحذر الاستثماري ويؤخر مشاريع البنية التحتية والتوسع في الموانئ، كما أن الأزمة كشفت عن قصور في الرقمنة والتجهيزات الذكية للموانئ، ما يجعل التأقلم مع الصدمات أمراً صعباً بالنسبة للدول النامية.
وإذا استمر الوضع على هذا النحو، فإن المآلات المتوقعة تشمل استمرار ارتفاع تكاليف الشحن، ما يزيد التضخم في أسعار السلع المستوردة. وتفاقم الفجوة بين الدول الكبرى القادرة على امتصاص الصدمات والدول الصغيرة أو النامية الأكثر هشاشة. واحتمال تأجيل أو إلغاء عقود تجارية بسبب عدم اليقين اللوجستي، ما يضعف سلاسل التوريد الإقليمية.
وبالنظر المعمق في أزمة البحر الأحمر، فإنها ليست مجرد تهديد مؤقت، بل تمثل اختباراً عالمياً لقدرة الحكومات والشركات على إدارة المخاطر المتعددة الأبعاد: سياسية، اقتصادية، بيئية، وبشرية، والفشل في التكيف مع هذه الأزمة قد يؤدي إلى تحولات طويلة المدى في مسارات التجارة البحرية العالمية، وإعادة توزيع النفوذ الاقتصادي بين الدول الكبرى والدول الأكثر هشاشة.