
تقارير | بقش
في خطوة وُصفت بأنها غير مسبوقة، عقدت مجموعة “بريكس” قمة استثنائية افتراضية بدعوة من الرئيس البرازيلي “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا”، لمناقشة الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً، والتي أثارت ارتدادات واسعة على اقتصادات الأسواق الناشئة.
القمة جمعت الرئيس الصيني تشي جين بينغ، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إلى جانب قادة جنوب أفريقيا ودول أخرى من “بريكس+”، فيما غاب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عن المشهد، لتُمثل بلاده عبر وزير الخارجية.
غياب مودي كان لافتاً، في وقت تحتدم فيه المواجهة التجارية بين واشنطن ونيودلهي، بعد فرض رسوم بنسبة 50% على الصادرات الهندية إلى الولايات المتحدة بسبب استمرار اعتمادها على النفط الروسي. واعتبر محللون أن هذا الغياب يعكس موقفاً حذراً من نيودلهي، التي تحاول الموازنة بين مصالحها الاقتصادية الضخمة مع واشنطن وعلاقاتها المتنامية مع موسكو وبكين.
هجوم برازيلي ورسالة صينية لمواجهة الغرب
الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي دعا إلى القمة، شن هجوماً مباشراً على واشنطن، واصفاً الرسوم الجمركية الأمريكية بأنها “ابتزاز اقتصادي” يهدف إلى إضعاف الاقتصادات الناشئة والتحكم بمسارات التجارة العالمية. وقال لولا إن بلاده لن تقبل بأن تُفرض عليها سياسات تجارية مجحفة، ودعا إلى توحيد الصف داخل “بريكس” لمواجهة هذه السياسات عبر تنسيق أوثق في المواقف والتجارة بالعملات المحلية.
في المقابل، اتخذ الرئيس الصيني تشي جين بينغ لهجة أكثر هدوءاً لكنها لا تقل وضوحاً، حيث شدد على أن “مواجهة كل أشكال الحمائية” باتت ضرورة عالمية، مؤكداً أن الصين ستدافع عن النظام التجاري المتعدد الأطراف القائم على منظمة التجارة العالمية. وأكد شي أن بناء اقتصاد عالمي منفتح يتيح تقاسم الفرص وتحقيق مكاسب مشتركة هو الطريق الأمثل لتفادي الانزلاق نحو أزمات اقتصادية متفاقمة.
من جانبه، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الرسوم الأمريكية الجديدة تؤكد أن واشنطن تسعى لاستخدام التجارة كأداة ضغط جيوسياسي، مشيراً إلى أن مثل هذه الخطوات ستدفع موسكو وبكين إلى تعميق تحالفهما أكثر في مواجهة الضغوط الغربية. بوتين أكد أن “التعددية لم تعد خياراً بل ضرورة”، وأن روسيا ستواصل تعزيز التجارة بالعملات المحلية، بما في ذلك الروبل واليوان، لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
هذا الموقف يعكس التوجه الروسي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، حيث تزايدت الضغوط الغربية على موسكو، ما دفعها إلى تعزيز تعاونها مع الصين والهند ودول “الجنوب العالمي”، ومع ذلك، فإن غياب مودي عن القمة يسلط الضوء على حدود هذا التعاون، إذ لا تزال نيودلهي تمسك العصا من المنتصف بين الشرق والغرب.
أصوات جديدة في بريكس+: إيران ومصر تدخلان على الخط
الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان استغل القمة لتوجيه انتقادات حادة للنظام الدولي، واصفاً العقوبات الأمريكية والغربية بأنها “أخطر التهديدات للاستقرار العالمي”. ودعا إلى إصلاح شامل لمجلس الأمن الدولي والنظام المالي والنقدي العالمي، معتبراً أن “بريكس” ومؤسسات الجنوب العالمي تتحمل مسؤولية تاريخية في قيادة التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وأكد بزشكيان أن “العدوان العسكري على إيران، والمجازر المستمرة في غزة ولبنان واليمن، وضغوط واشنطن على فنزويلا، كلها شواهد واضحة على عجز النظام الدولي الحالي عن تحقيق العدالة أو حفظ الأمن”. ورأى أن مواجهة السياسات الأحادية تتطلب بناء منظومة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون المتعدد الأطراف.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي شارك عبر تقنية الفيديو، ركز في كلمته على الجوانب الاقتصادية، داعياً إلى تسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية وتعزيز دور بنك التنمية الجديد التابع لبريكس. كما شدد على أهمية مواجهة تحديات تغير المناخ ودعم الدول النامية في الحصول على التمويل الميسر والتكنولوجيا اللازمة.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أكد السيسي الرفض القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، مشيراً إلى أن مصر ستواصل جهودها المكثفة للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار القطاع عبر خطة مصرية حظيت بتأييد عربي ودولي.
مواقف متباينة.. الهند: الغائب الحاضر
غياب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عن القمة كان من أبرز محطاتها. فالهند، ثالث أكبر مستهلك للطاقة في العالم، تستفيد بشكل ضخم من النفط الروسي المخفض، لكنها في الوقت نفسه تواجه ضغوطاً أمريكية متزايدة. وقد عكس تمثيلها بوزير الخارجية فقط موقفاً حذراً يرمي إلى تجنب التصعيد مع واشنطن.
الهند تدرك أن مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة قد تهدد علاقاتها التجارية والتكنولوجية معها، في وقت تسعى فيه لتعزيز صناعاتها وجذب الاستثمارات الأجنبية. لكن في المقابل، استمرارها في شراء النفط الروسي يجعلها عرضة لرسوم جمركية أمريكية باهظة قد تكلفها مليارات الدولارات.
وفيما أبدت الصين وروسيا لهجة تصعيدية نسبياً ضد واشنطن، حاولت دول أخرى مثل مصر وجنوب أفريقيا طرح مواقف أكثر توازناً تركز على تعزيز التعاون الاقتصادي وتفادي الانجرار إلى مواجهة مباشرة. ويعكس ذلك الانقسام الطبيعي داخل المجموعة، التي تضم دولاً ذات مصالح متباينة وعلاقات متفاوتة مع الولايات المتحدة.
بحسب محللين، فإن غياب بيان مشترك في ختام القمة يؤكد هذه التباينات، إذ فضّل كل زعيم نشر كلمته بشكل منفصل، لتجنب صياغة موقف جماعي قد يحرج بعض الدول أمام واشنطن.
التداعيات الاقتصادية والسياسية: تحدي الدولار
واحدة من أبرز النقاط التي نوقشت خلال القمة كانت مساعي بريكس لتعزيز التجارة بالعملات المحلية وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي. هذه المساعي تتزامن مع تقارير دولية أظهرت تراجع حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية إلى نحو 57.8% في الربع الأول من 2025، مقابل أكثر من 70% مطلع الألفية.
لكن خبراء اقتصاديين يرون أن تقليص هيمنة الدولار يتطلب وقتاً طويلاً واستثمارات ضخمة في البنية المالية العالمية. غيتا غوبيناث، النائبة الأولى لمديرة صندوق النقد الدولي، كانت قد حذرت في وقت سابق من أن “تجزئة النظام المالي دون بديل قوي قد تؤدي إلى اضطرابات أكبر من استمرار الاعتماد على الدولار”.
الرسوم الجمركية الأمريكية المتصاعدة دفعت بالفعل بعض الدول إلى البحث عن بدائل. ففي كينيا مثلاً، لجأت الحكومة إلى اتفاقيات نفطية بآجال ائتمانية طويلة مع شركات خليجية لتخفيف الضغط على الدولار. وفي سريلانكا، تم اعتماد الروبية الهندية في التجارة الثنائية مع نيودلهي. بينما اتجهت البرازيل إلى تسوية بعض صفقاتها مع الصين باليوان والريال البرازيلي.
هذه الأمثلة تظهر أن التعددية النقدية لم تعد مجرد فكرة نظرية، بل بدأت تتحول إلى ممارسات واقعية. ومع ذلك، فإن غياب إطار مؤسسي قوي يجعلها خطوات متفرقة يصعب أن تشكل بديلاً متكاملاً في المدى القريب.