
تقارير | بقش
تشهد فرنسا موجة غير مسبوقة من خروج رؤوس الأموال وأموال الأثرياء نحو ملاذات مالية أكثر استقراراً مثل “لوكسمبورغ” و”سويسرا”، هرباً من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.
فمع تصاعد الاضطرابات السياسية وعودة الحديث عن “فرض ضرائب جديدة على الأثرياء”، بدأت الثروات الفرنسية تبحث عن الأمان خارج الحدود.
وبدأت ملامح الأزمة منذ منتصف عام 2024، عندما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتخابات تشريعية مبكرة في محاولة لإنهاء حالة الجمود السياسي حسب مراجعة بقش، لكن النتيجة جاءت عكسية، إذ أفرزت برلماناً منقسماً وضعفاً حكومياً مزمناً.
ومع تصاعد العجز المالي ومحاولات الحكومة سد فجوة تقارب 2.5 مليار يورو عبر ضرائب إضافية تستهدف نحو 20 ألفاً من كبار الأثرياء والشركات الكبرى، بدأت مؤشرات الهروب المالي بالظهور بوضوح.
هروب الأموال الفرنسية
حسب اطلاع مرصد “بقش” على بيانات هيئة الرقابة على التأمين في لوكسمبورغ، ارتفعت استثمارات الفرنسيين في “عقود تأمين الحياة” هناك بنسبة 58% عام 2024، لتصل إلى 13.8 مليار يورو، وهو أعلى رقم يسجَّل في تاريخها.
وأصبحت لوكسمبورغ الوجهة المفضلة للأثرياء الفرنسيين بفضل مرونة منتجاتها المالية وإمكانية الاحتفاظ بالأموال خارج النظام المصرفي الفرنسي، ورغم عدم وجود إعفاءات ضريبية مباشرة، إلا أن طبيعة السوق الهادئة والمستقرة توفر شعوراً بالأمان والمرونة المستقبلية.
أما سويسرا، فما تزال الملاذ التقليدي الأكثر ثقة، إذ تمنح المقيمين الأثرياء أنظمة ضريبية مقطوعة ومناخاً سياسياً مستقراً بعيداً عن التقلبات.
ويقول المحامي السويسري “فيليب كينيل” لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية إن المسألة لم تعد تتعلق بالضرائب فقط، بل بالاستقرار العام والثقة في المؤسسات.
ولا تتوقف الظاهرة عند حدود سويسرا ولوكسمبورغ فقط، حيث تفيد تقارير اقتصادية اطلع عليها بقش من بلومبيرغ وفاينانشال تايمز، بأنّ دولاً مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال استفادت من هجرة رؤوس الأموال الأوروبية خلال العام الماضي.
ففي إيطاليا، رغم رفع الضريبة المقطوعة على الدخل الأجنبي إلى 300 ألف يورو سنوياً، لا تزال البلاد تستقطب الأثرياء بفضل المرونة القانونية والضريبية، أما إسبانيا والبرتغال فتمثلان خياراً “أقل تكلفة” بالنسبة للطبقة المتوسطة العليا من المستثمرين الفرنسيين.
ويرى محللون اقتصاديون، منهم في بنك “بي إن بي باريبا” الفرنسي، أنّ ما يحدث ليس مجرد “هروب ضريبي” بل أزمة ثقة بنيوية في الاقتصاد الفرنسي، إذ يشعر المستثمرون بعدم وضوح السياسات الاقتصادية وتقلّبها المستمر تبعاً للضغوط السياسية والاجتماعية.
ويقلص خروج رؤوس الأموال قدرة الدولة على جذب استثمارات داخلية جديدة، في الوقت الذي يرى فيه اليساريون أن الأغنياء يتهربون من واجبهم، فيما يرى اليمين أن الحكومة تقتل روح المبادرة.
ووسط أزمة الانتخابات التشريعة المذكورة آنفاً، تشهد فرنسا اضطرابات سياسية ومالية صارخة، أدت في النهاية إلى تقديم رئيس الوزراء “سيباستيان لوكورنو” استقالته بعد ساعات فقط من تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، في 06 أكتوبر الجاري.
وزير الاقتصاد الفرنسي: “خفض التصنيف جرس إنذار”
وخلال الأزمة الراهنة، اعتبر وزير الاقتصاد الفرنسي رولان ليسكور، أمس السبت، أن خفض التصنيف الائتماني لبلاده من قبل وكالة “إس آند بي غلوبال” يمثل “جرس إنذار” ويدفع إلى ضرورة تمرير موازنة عام 2026.
وخفضت وكالة إس آند بي غلوبال التصنيف الائتماني لفرنسا من AA- إلى A+، لتصبح ثالث وكالة خلال أقل من عام تخفض تقييمها بعد “فيتش” الأسبوع الماضي و”موديز” في ديسمبر 2024.
وتسعى الحكومة الفرنسية وفق مشروع الموازنة الجديد لخفض عجز الموازنة من 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى 4.7% العام المقبل، لكن القواعد الأوروبية تشترط ألا يتجاوز العجز 3% من الناتج وفق قراءة بقش، وألا يتخطى الدين العام 60% من الناتج المحلي، بينما يصل دين فرنسا إلى نحو ضعف هذا السقف، لتصبح في المرتبة الثالثة بعد اليونان وإيطاليا.
انعكاسات مستقبلية
من المرجح أن تتحول ظاهرة هروب الأموال الفرنسية من فرنسا إلى هجرة بشرية واستثمارية فعلية، مع انتقال بعض الأثرياء لإقامة دائمة في سويسرا أو موناكو أو البرتغال.
وتحذر تقارير اقتصادية أوروبية من أن استمرار هذا الاتجاه سيؤدي إلى إضعاف سوق رأس المال الفرنسي وتهديد مكانة باريس كمركز مالي أوروبي منافس للندن وفرانكفورت.
ولا يُعد هروب أموال الفرنسيين مجرد حركة اقتصادية بل مؤشر سياسي عميق على انحسار الثقة بين الدولة ونخبتها المالية، وفي حال عدم نجاح الحكومة الفرنسية في إعادة التوازن بين العدالة الضريبية والاستقرار الاستثماري، فقد تجد فرنسا نفسها أمام تسارع نزيف ثرواتها نحو الخارج، في وقت تحتاج فيه بشدة إلى كل يورو لتفادي أزمات قادمة.