
الاقتصاد العالمي | بقش
منذ سنوات، تخوض الصين والولايات المتحدة مواجهة اقتصادية وتجارية طويلة الأمد، تُعرف غالباً بـ”الحرب التجارية بين الصين وأمريكا”، وفي هذه المواجهة، ارتفعت رسوم الجمارك الأمريكية على الكثير من الواردات الصينية، وردّت الصين بإجراءاتٍ مضادة، إضافة إلى محاولات واشنطن للحدّ من قدرات الصين التكنولوجية، والسيطرة على المعادن النادرة، وإجبار الصين على تغييرات هيكلية في سياستها الصناعية والتجارية.
لكن إلى جانب المواجهة الحادة، ظهرت دلائل على أن الصين استفادت من بعض التغيّرات، إذ لم تنهَر صادراتها بصورة كارثية، بل استمرت في تعزيز تواجدها ضمن سلاسل القيمة العالمية، حتى وإن تأثّرت بموجة “+China-1” أي تحويل بعض الإنتاج من الصين إلى بلدان جنوب شرق آسيا.
بهذا الإطار، كان السؤال دائماً: هل تنهزم الصين أم تنتصر؟ أو بمعنى أدق، ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لقياس الانتصار أو الهزيمة؟
التفاهمات حالياً
بعد القمة الحاسمة التي جمعت بين دونالد ترامب وشي جين بينغ اليوم الخميس في مدينة بوسان بكوريا الجنوبية، أُعلن عن مجموعة من الاتفاقات والتفاهمات التي تُشكّل تهدئة مؤقتة في النزاع التجاري وفق متابعة بقش، أبرزها خفض واشنطن الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية، حيث قالت واشنطن إنها ستخفض معدل الرسوم الإجمالي من نحو 57% إلى نحو 47%.
والتزمت الصين بتعليق أو تأجيل لبعض إجراءاتها المضادة، مثل صادرات المعادن النادرة التي كانت تهدد بها، وقد أُعلن تأجيل هذه الضوابط لمدة عام.
الصين أيضاً تعهدت بزيادة شراء منتجات زراعية أمريكية، مثل فول الصويا، ووافقت على شراء 12 مليون طن متري من فول الصويا هذا العام، وما لا يقل عن 25 مليون طن سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع بدء تعاون أيضاً في ملفات متعلّقة بالمخدّرات مثل مادة الفنتانيل.
ويُقدَّم الاتفاق كهدنة لسنة واحدة، أي إن القيود والرسوم لا تُرفع بالكامل، بل تُعلّق أو تُخفّف مؤقتاً، وبعبارة أخرى فإن ما حدث هو تهدئة منتظرة، ويبدو أنه ليس إنهاءً للحرب التجارية، وليس أيضاً تغييراً جذرياً فورياً في قواعد اللعبة.
مكاسب للصين
الصين حصلت على “تجميد” لبعض الضغوط الأمريكية، وهذا يمنحها وقتاً لتنظيم نفسها والتكيّف مع التحديات، بدلاً من مواجهة تصعيد أكبر فورياً وفق قراءة مرصد “بقش”. وتأجيل ضوابط تصدير المعادن النادرة يعطي الصين مرونة إضافية، إذ كانت تحت ضغط لتقييد صادراتها، الأمر الذي كان يمكن أن يُحرجها أمام شركائها وبأسواق تكنولوجية (خصوصاً أمريكا وحلفائها).
أيضاً، من جهة رمزية، يمكن اعتبار أن الصين نجحت في تحقيق مساومة من الولايات المتحدة، فخفض الرسوم وتحريك الشراء الزراعي وبعض التنازلات تُعدّ مؤشّرات على أن الصين لم تخسر بالكامل وأن لديها أدوات للتفاوض.
استراتيجياً، الصين تواصل تحوّطها في سلاسل التوريد، كما أظهرت دراسات أنها تزيد من حضورها في أجزاء الإنتاج الأولية ضمن سلاسل القيمة العالمية، ما يعزز مراكزها على المدى المتوسط والبعيد.
ورغم المكاسب الرمزية، لم تحصل الصين حتى الآن على التزامات أمريكية جوهرية بتغيير السياسات الأمريكية أو التخفيف الشامل للرسوم الجمركية.
ومن الناحية الاقتصادية، تخفيف التوتر لا يغيّر فجأة الواقع الصناعي أو الهيكلي الذي تأثّر به الاقتصادان الصيني والأمريكي، فمنافسة التكنولوجيا والتصنيع لا تزال قائمة، كما أن الصين تواجه تباطؤاً داخلياً وضغوطاً بنيوية.
تنازلات أمريكية
الولايات المتحدة نجحت في تأمين بعض التزامات من الصين، خصوصاً في الزراعة والمجالات التي تعدّ محطّ حساسية انتخابية في أمريكا (مثل مزارعي الصويا).
ومن المطلوب أن يُنظر للاتفاق على أنه تجنّب لتصعيد أكبر كان يمكن أن يضر الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي (خصوصاً عبر تدخل الصين بصادرات المعادن النادرة).
وقد يمنح الاتفاق الشركات الأمريكية بعض الطمأنينة في التخطيط، ويقلّل حدة الانقطاع الفوري في العلاقات الاقتصادية مع الصين.
ويعني خفض الرسوم الأمريكية من 57% إلى 47% أنّ الولايات المتحدة تحمّلت نوعاً من التنازل عن أقصى موقع لها في المواجهة. وحسب قراءة بقش، هذه التهدئة قد تُفسّر بأنها مكافأة للصين لاستمرارها في السياسات التي كانت واشنطن تنتقدها، دون تغيير جوهري.
ولأن الاتفاق مرحلي، فالولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بالورقة الضاغطة، لكنها بإخراجها من التداول الآن قد تخسر قوة الضغط لفترة.
وإذا فشلت الصين في تنفيذ التزاماتها أو إذا عاودت التصعيد لاحقاً، فإن الولايات المتحدة ستكون مُلزَمة بردّ فعل قد يكون أقل حدة من التصعيد السابق، وبالتالي قد تُواجه تراجُعاً في قدرتها على التأثير.
الخسارة بشكل أقل تساوي انتصاراً
يُنظَر إلى أن الصين تركز على تحقيق أهدافها الأساسية في المواجهة (خفض الرسوم الأمريكية عليها، استمرار قدرتها المنافسة، تفادي ضغوط كبيرة تُغيّر سياساتها الصناعية التجارية)، دون أن تخسر كثيراً.
لذا يمكن القول إن الصين حققت مكاسب واضحة تمثّل انتصاراً، إذ تم إبطاء التصعيد، وتم إحداث تهدئة، وتأجلت بعض الضغوط الأمريكية.
لكن من زاوية استراتيجية كاملة، لا يمكن القول إن هناك فائزاً تماماً من الطرفين، فالقضايا الجوهرية ما زالت معلّقة ولم تُنهِ الحرب التجارية، بينما لا يزال التنافس التكنولوجي والصناعي مستمراً.
وفي الفترة القادمة يجب مراقبة ما إذا كانت الرسوم الأمريكية ستُرفع مجدداً بعد انتهاء المهلة أو إذا مدّدت التهدئة، وكيف سيرد الطرفان.
كما تجدر مراقبة ما سيحدث في مجال التكنولوجيا المتقدمة، تصدير الرقائق، المعالجات، الملكية الفكرية، حيث إن هذه القضايا قد تكون أكثر تأثيراً على المدى الطويل من الرسوم البسيطة.
أيضاً مراقبة كيف ستؤثر هذه التهدئة على سلاسل التوريد العالمية، هل ستحاول الصين تعميق علاقاتها خارج الولايات المتحدة، أم ستحاول الولايات المتحدة تنويع مصادرها بعيداً عنها؟
وكذلك الأثر الداخلي في كل من الصين والولايات المتحدة، وهل ستستخدم الصين هذا الانتصار لتقوية اقتصادها الداخلي أو إعادة هيكلة صناعاتها؟ وهل ستُعيد الولايات المتحدة النظر في استراتيجيتها التجارية مع الصين؟


