بـ3.5 تريليون دولار.. لماذا تسعى صناديق الخليج إلى صفقات الاستحواذ عالمياً؟

الاقتصاد العالمي | بقش
طفرةٌ غير مسبوقة تشهدها سوق الاندماج والاستحواذ العالمية هذا العام، حيث تجاوزت قيمة الصفقات منذ بداية العام 3.5 تريليون دولار، بزيادة قدرها 34% مقارنة بالعام 2024.
وحسب اطلاع بقش على تقرير جديد لوكالة بلومبيرغ، فإن هذه الموجة الصاعدة سببها الصناديق السيادية الخليجية، التي تحولت من دور المستثمر المساند إلى فاعل رئيسي يقود صفقات ضخمة عابرة للقارات، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة الجديدة والترفيه.
وكان أبرز ما شهده العام الحالي مشاركة صناديق الخليج في صفقات عملاقة، من بينها استحواذ “بلاكستون” و”تي بي جي” على شركة “هولوجيك” للأجهزة الطبية بقيمة 18.3 مليار دولار، بمشاركة كل من جهاز أبوظبي للاستثمار وصندوق GIC السنغافوري.
وصفقة “بلاك روك” و”مبادلة” عبر شركة الذكاء الاصطناعي التابعة لها MGX، للاستحواذ على “ألايند داتا سنترز” بقيمة 40 مليار دولار، وشراكة “كارلايل” و”جهاز قطر للاستثمار” لشراء وحدة الطلاءات التابعة لشركة BASF الألمانية بقيمة 8.9 مليار دولار.
وصفقة صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) لشراء شركة ألعاب الفيديو العملاقة Electronic Arts وتحويلها إلى شركة خاصة بقيمة 55 مليار دولار، وهي أكبر صفقة استحواذ بالرافعة المالية في التاريخ.
كما اتسعت استثمارات هذه الصناديق في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ دعمت “إم جي إكس” الإماراتية مشاريع كبرى مثل OpenAI وxAI التابعة لإيلون ماسك، وشاركت في مشروع Stargate الأمريكي، بينما استثمرت الصناديق القطرية والسنغافورية في شركة Anthropic المنافسة لـ”أوبن إيه آي”.
أسباب المساعي الخليجية
وفق تتبُّع مرصد “بقش” للدوافع الاستراتيجية وراء هذا النشاط الاستثماري الخليجي، فإن من أبرز هذه الدوافع تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، حيث تسعى دول الخليج، بقيادة السعودية والإمارات وقطر، إلى بناء اقتصادات ما بعد النفط، انسجاماً مع رؤى تنموية مثل رؤية السعودية 2030 واستراتيجية الإمارات 2050.
والاستحواذات الخارجية تمنح دول الخليج هذه عوائد طويلة الأمد من قطاعات مستدامة مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والترفيه الرقمي.
وتعمل الصناديق الخليجية على ترسيخ حضورها في الأسواق الدولية، لتصبح مؤثراً في القرارات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية، إذ إن وجودها كشريك في صفقات تمسّ شركات عملاقة مثل OpenAI أو Electronic Arts يضعها -أي الصناديق الخليجية- في قلب صناعة المستقبل، ويمنحها نفوذاً في بيئة الابتكار العالمية.
كما تهدف الصناديق من هذه الاستثمارات إلى جذب الخبرات والتقنيات المتقدمة إلى الداخل الخليجي، وتأسيس مراكز بحث وتطوير محلية، خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والطاقة المتجددة.
وتريد الدول الخليجية تحقيق عوائد مالية مستقرة ومباشرة، فمن خلال التوسع في الاستثمارات المباشرة تسعى الصناديق إلى تجاوز وساطة بنوك الاستثمار الغربية وتقليص الرسوم، ما يرفع العائد الفعلي على استثماراتها، وهي استراتيجية مدعومة بالسيولة الضخمة التي تراكمت من فوائض النفط والغاز خلال السنوات الأخيرة.
كما تأتي هذه التحركات وسط ركود بعض الأسواق المحلية الخليجية، مما يجعل الأسواق الغربية والآسيوية بيئة أكثر جذباً لتحقيق نمو رأسمالي سريع ومستقر.
مخاطر على الخليج
هناك إيجابيات لهذه الاستحواذات لكن على المدى القصير، وتتمثل في محاولة تعزيز سمعة دول الخليج كمراكز مالية عالمية قادرة على تحريك الأسواق الكبرى، وتحقيق عوائد ضخمة من قطاعات التكنولوجيا المتسارعة النمو، وتأمين مكانة دولية جديدة في خريطة النفوذ الاقتصادي، وإعادة توجيه فوائض النفط نحو أصول استراتيجية تضمن استدامة الثروة.
لكن في المقابل، ثمة مخاطر وآثار سلبية محتملة، أهمها الاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية، فقد يؤدي التوسع الكبير في الاستحواذات الخارجية إلى تعريض الصناديق لمخاطر اقتصادية أو سياسية في تلك الأسواق، مثل تغير السياسات الضريبية أو التوترات الجيوسياسية.
إضافةً لذلك، تتأثر العوائد بتقلبات الاقتصاد الأمريكي، فنظراً لأن معظم الصفقات متركزة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أي ركود أمريكي أو تغير في أسعار الفائدة سيؤثر مباشرة على العوائد الخليجية.
وهناك احتمالات للصدام مع التشريعات الغربية، لأن ازدياد نفوذ الصناديق الخليجية في شركات استراتيجية -خاصة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي- قد يثير مخاوف أمن قومي في واشنطن أو بروكسل، ما قد يؤدي إلى قيود أو تدقيق إضافي على الاستثمارات الخليجية.
كما يؤدي التوجه المفرط نحو الخارج إلى إضعاف الاستثمار المحلي في قطاعات حيوية داخل دول الخليج، إذا لم يُوازن بين الداخل والخارج بشكل مدروس.
هذا ويتوقع كبار المصرفيين أن تستمر موجة الاستحواذات بقوة خلال عامي 2025 و2026، وربما تشهد الأخيرة رقماً قياسياً جديداً، مع اتساع أنشطة صناديق مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي ومبادلة الإماراتي وجهاز قطر للاستثمار.
وعلى الأرجح ستتركز الاستثمارات المقبلة على الذكاء الاصطناعي التوليدي والطاقة الخضراء وصناعة الألعاب الإلكترونية ومراكز البيانات.
وتكشف الطفرة الحالية في صفقات الاندماج والاستحواذ عن انتقال في الدور الاقتصادي الخليجي، من الاعتماد على تصدير النفط إلى تصدير رأس المال الذكي والتأثير المالي العالمي.
ورغم ما تحققه هذه السياسات من نفوذ وعوائد ضخمة، إلا أنها تفرض على دول الخليج تحدياً دقيقاً يتمثل في الموازنة بين الطموح العالمي والاستدامة المحلية، وتجنب الانزلاق إلى مخاطر اقتصادية أو سياسية قد تعصف بعوائد هذا التوسع غير المسبوق.