بكين تُحاصر “تسلا”.. كيف خسر عملاق وادي السيليكون معركته في قلب أكبر سوق للسيارات الكهربائية؟

تقارير | بقش
قبل أن تهز الصين عرش صناعة السيارات الكهربائية، كانت “تسلا” تبدو وكأنها وحدها في المضمار. كانت الشركة الأمريكية رمز التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة، ومرجعاً للتكنولوجيا المتقدمة والابتكار الجامح.
لكن ما حدث داخل السوق الصينية خلال السنوات الأخيرة كشف حقيقة أساسية صادمة: التفوق التقني وحده لا يكفي، عندما يواجهك خصم يمتلك القدرة على الإنتاج الضخم، والتحكم في سلاسل الإمداد، ودعم حكومي لا يعرف التردد.
من موقع القيادة، انتقلت “تسلا” إلى موقع الدفاع. لم يكن التراجع تدريجياً، بل أشبه بانخفاض حاد في منحنى السيطرة، بعد أن خسر العملاق الأمريكي جزءاً ضخماً من حصته، واضطر للدخول في معركة أسعار شرسة، لم يكن يفكر فيها يوماً. المعادلة تغيرت ببساطة: الصين لم تعد مجرد سوق مهمة لـ”تسلا”، بل أصبحت ساحة اختبار تكشف من يمتلك فعلاً مستقبل الصناعة.
وتحت هذا الضغط، أعادت “تسلا” صياغة أدواتها داخل الصين، ليس من أجل التوسع، بل للبقاء في دائرة المنافسة. ومع ذلك، تبدو النتائج حتى الآن إشارة واضحة إلى أن اللعبة تغيرت، وأن الخصم هذه المرة لا يكتفي بمنافستك، بل يسابقك نحو قيادة العالم بأكمله.
صعود التنين: سوق ضخمة وإنتاج بتكلفة أدنى وقدرات تكنولوجية متسارعة
خلال سبتمبر 2025 وحده، تم بيع 2.1 مليون سيارة كهربائية حول العالم، حصدت الصين منها ما يقارب 1.3 مليون وحدة وفق متابعة مرصد “بقش”. هذا الرقم وحده يعكس حجم الزخم الذي تقوده بكين في صناعة باتت محور المستقبل الصناعي العالمي. لم يكن الإنجاز فقط في المبيعات، بل في القدرة على تحويل الطلب العالمي إلى أرقام ملموسة بفضل طاقة إنتاجية هائلة.
الركيزة الأساسية لقوة الصين تكمن في نموذجها الصناعي: إنتاج محلي لمكونات رئيسية، وتكامل رأسي يتيح للشركات الكبرى مثل “بي واي دي” تخفيض التكلفة بنسبة تقارب 25%. تخيل impact مثل هذا الرقم في صناعة سيارات، حيث كل دولار محسوب بدقة من مرحلة التصميم إلى التسليم. الفارق هنا ليس تقنياً فقط، بل بنيوياً، يغير قواعد اللعبة من أساسها.
ولم تتوقف الصين عند ذلك. إنتاجها الكبير ترافق مع تطور تقني ملموس، خصوصاً في البطاريات والمكونات الإلكترونية، ما سمح للشركات المحلية ليس فقط بمنافسة “تسلا”، بل التفوق عليها في نماذج معينة من حيث السعر والقيمة والأداء العملي داخل السوق.
تسلا في الصين.. رحلة الهبوط الصعب
في عام 2020، كانت “تسلا” تحظى بحصة سوقية بلغت 16% في الصين، لتتراجع خلال 2025 إلى حدود 4.9% في الفترة من يناير وحتى سبتمبر حسب مراجعة بقش. ورغم صعود طفيف إلى 5.5% في سبتمبر، إلا أن الاتجاه الواضح هو فقدان النفوذ، وارتفاع كلفة البقاء في اللعبة.
بيانات المبيعات التي تتبَّعها بقش كشفت عن بيع 432 ألف سيارة في الصين خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، بانخفاض يقارب 6% على أساس سنوي. ومع هذا الانكماش، اضطرت الشركة الأمريكية لتقديم حوافز استثنائية: تمويل بدون فوائد، دعم تأميني يصل إلى 8 آلاف يوان، وتخفيض أسعار “موديل 3″ و”موديل Y” بحوالي 3.7%.
لكن الثمن كان قاسياً. هامش الربح الإجمالي هبط إلى 16.3%، والهامش التشغيلي إلى 4.1%، بينما تراجع صافي الدخل بنسبة 16%. أي أن كل خطوة للدفاع عن الحصة السوقية خلّفت ضغطاً مباشرة على ربحية الشركة. إنها معركة استنزاف وليست منافسة طبيعية.
منافسون كبار وجدد.. و”شاومي” تُوجّه ضربة معنوية للعلامة الأمريكية
لم تعد المنافسة تقتصر على “بي واي دي”. شركات صاعدة مثل “شاومي” دخلت القطاع بقوة وابتكار وسرعة تنفيذ. سيارة SU7 من “شاومي” تجاوزت مبيعات “تسلا موديل 3” في أربعة أشهر منذ أبريل 2024. وفي صيف 2025، سجل طراز YU7 أكثر من 89 ألف طلب خلال 24 ساعة فقط من إطلاقه.
هذه الأرقام ليست مجرد نجاح تجاري، بل مؤشر حسّاس على ما يبحث عنه المستهلك الصيني: قيمة فعلية، تصميم عصري، وفرصة الحصول على سيارة متقدمة بتكلفة أقل. حين يقدم السوق خيارات واسعة وبزخم تطوير سريع، فإن الولاء للعلامة التجارية وحده لا يكفي لحماية موقع “تسلا”.
الصين بالفعل تحولت إلى بيئة تنافسية مليئة بالخيارات، حيث يتم إطلاق طرازات متعددة خلال فترات قصيرة، ما يرفع سقف التوقعات، ويضع ضغطاً متواصلاً على أي لاعب لا يستطيع مواكبة الإيقاع.
استراتيجيات مختلفة: إنتاج ضخم مقابل تسعير تكيفي
استثمار “تسلا” الضخم في مصنع شنغهاي كان خطوة استراتيجية لتقليل كلفة الإنتاج وزيادة الكفاءة. لكنه لم يكن كافياً لمجاراة استراتيجية التكامل الصيني ومرونة سلاسل الإمداد المحلي. فوفق اطلاع بقش، لم تعتمد الشركات الصينية فقط على تخفيض التكلفة، بل وظفت قدراتها الصناعية لتسريع الإنتاج وتقديم طرازات بأسعار منخفضة ومواصفات ملائمة لغالبية السوق.
بالمقابل، اضطرت “تسلا” لتبسيط منتجاتها وتعديل أسعارها وطرح برامج تسعير مبتكرة، لكنها خطوة دفاعية أكثر من كونها استراتيجية هجوم. ويمكن القول إن “تسلا” تحاول حماية موقعها حتى وإن جاء ذلك على حساب قوتها المالية ومتوسط الربحية.
في هذه المرحلة، تبدو الفروقات الجوهرية واضحة: الصين تبني وتهاجم وتوسع، بينما “تسلا” تحاول احتواء الخسارة وتثبيت موقعها حتى إشعار آخر.
ويعبّر المشهد عن أنّ الصين لم تُنافس “تسلا” فقط، بل فرضت نموذجاً جديداً لصناعة السيارات الكهربائية، يقوم على الإنتاج المحلي، والسرعة، والتكلفة الأقل، والابتكار العملي. وفي هذا السياق، تحولت “تسلا” من لاعب يحكم السوق إلى شركة تدافع عن موضعها في سوق كان يُفترض أن تكون فيه صاحبة اليد العليا.
استعادة السيطرة لن تكون مهمة سهلة ولا سريعة. ومع تزايد الضغوط وتوسع شركات صينية متعددة في الأسواق العالمية، تبدو “تسلا” أمام اختبار صعب يتطلب تغييراً عميقاً في الاستراتيجية، وليس مجرد تخفيض أسعار أو عروض مؤقتة. فالمنافسة القادمة ليست في التكنولوجيا فقط، بل في القدرة على جعلها متاحة للجميع وبسرعة وكفاءة.
السنوات المقبلة ستحدد إن كان عصر “تسلا” الذهبي سيستمر، أم أن التاج قد انتقل فعلاً إلى الشرق.


