بنوك السعودية تغرق في الاستدانة: توسع محفوف بالمخاطر يكشف فجوة في الأصول الأجنبية وسط ضغوط الاقتصاد النفطي

الاقتصاد العربي | بقش
تشهد الساحة المصرفية السعودية خلال العام الجاري طفرة غير مسبوقة في إصدارات أدوات الدين، إذ تجاوزت قيمتها منذ مطلع 2025 ما جرى جمعه طوال عام 2024. وبينما كان من المنطقي أن تتريث البنوك في ظل التوقعات المتزايدة بخفض أسعار الفائدة الأمريكية، فإنها اندفعت إلى سوق السندات والصكوك بوتيرة لافتة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول استدامة هذا التوسع وملاءمته للوضع المالي العام.
البنك السعودي الفرنسي، المملوك بأغلبيته للأمير الوليد بن طلال عبر “المملكة القابضة”، قاد الموجة الأحدث عبر إصدار سندات بقيمة مليار دولار، في وقت يستعد فيه البنك السعودي الأول ومصرف الإنماء لخطوات مشابهة، لم يُعلن بعد عن تفاصيلها.
ومع هذا الإصدار، ارتفع إجمالي أدوات الدين التي أصدرتها البنوك المدرجة في السوق السعودية منذ بداية العام إلى 11.4 مليار دولار، متجاوزة بذلك إجمالي 2024 البالغ 9.5 مليار دولار.
توزعت هذه الإصدارات بين صكوك وسندات وبعملات متعددة من الريال السعودي إلى الدولار الأمريكي، عبر 15 إصداراً حتى الآن، حيث تصدر البنك السعودي الفرنسي القائمة بجمع 2.4 مليار دولار، يليه بنك الرياض – الذي يملك صندوق الاستثمارات العامة حصة 21.7% منه – بإجمالي 1.78 مليار دولار وفق اطلاع مرصد بقش، ثم البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة من حيث الأصول، والذي يمتلك فيه الصندوق حصة تصل إلى 37.2%.
سباق مع خفض الفائدة الأمريكية
ورغم أن الأسواق تسعر بنسبة تقارب 85% لاحتمال خفض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في سبتمبر، فإن البنوك السعودية تسابق الوقت لإتمام إصداراتها الآن.
المحلل المالي هشام العياص قال لشبكة بلومبيرغ أن هذا التسارع يعكس رغبة المؤسسات في استغلال الثقة الحالية بالتصنيف الائتماني للبنوك السعودية، إلى جانب سعيها لتأمين تمويلات طويلة الأجل قبل أن تتزاحم الجهات المصدرة الأخرى على السيولة عند بدء دورة الخفض.
غير أن الصورة لا تخلو من علامات مقلقة. فبيانات البنك المركزي السعودي تظهر أن صافي الأصول الأجنبية للبنوك بلغ سالب 123.5 مليار ريال بنهاية يونيو الماضي، ليسجل بذلك عجزاً للشهر الثاني عشر على التوالي.
هذا التراجع المستمر في الأصول الأجنبية يسلط الضوء على هشاشة الميزانيات أمام التزامات خارجية متنامية، ويثير تساؤلات جدية حول قدرة البنوك على الاستمرار في هذا المسار من دون مخاطر.
وتعكس هذه المعطيات مفارقة لافتة: من جهة، قدرة البنوك على اجتذاب مليارات الدولارات في إصدارات تغطيها شهية المستثمرين المحليين والعالميين، ومن جهة أخرى، اعتماد متزايد على الاقتراض الخارجي في ظل فجوة تمويلية واضحة.
وفي وقت تتسارع فيه مشاريع البنية التحتية والتحول الاقتصادي ضمن رؤية 2030، يبدو أن البنوك تجد نفسها مضطرة لمجاراة الطلب المتنامي على السيولة عبر الدين، حتى لو كان ذلك على حساب الاستدامة طويلة الأمد.
ضغوط الاقتصاد النفطي
لكن التوسع المصرفي في الاستدانة لا يمكن فصله عن المشهد الاقتصادي السعودي الأشمل. فالمملكة، التي تعد أكبر مصدر للنفط في العالم، تواجه ضغوطاً متزايدة جراء التراجع المستمر في الطلب العالمي على الخام، سواء بفعل تباطؤ الاقتصاد الصيني والأوروبي أو نتيجة التوسع السريع في بدائل الطاقة المتجددة حسب تحليلات بقش. هذه التطورات انعكست مباشرة على الإيرادات النفطية، التي لا تزال تشكل ركيزة أساسية للمالية العامة، رغم الجهود الحثيثة لتنويع مصادر الدخل.
هذا التراجع في الإيرادات النفطية أجبر الحكومة على تكثيف الاعتماد على الأسواق المالية لتمويل مشاريعها العملاقة، بدءاً من مشروعات البنية التحتية ووصولاً إلى “نيوم” ومبادرات الطاقة النظيفة.
ومع ضغط المالية العامة، باتت البنوك المحلية شريكاً أساسياً في تغطية فجوة التمويل، ما يفسر موجة الاستدانة الراهنة. إلا أن اعتماد البنوك على الاقتراض الخارجي بكثافة، في وقت تعاني فيه من عجز في صافي الأصول الأجنبية، يثير مخاوف بشأن هشاشة القطاع المالي إذا ما تعرضت الأسواق العالمية لأي صدمات مفاجئة.
ويضاف إلى ذلك حسب قراءة بقش أن تقلبات سوق النفط تجعل أي خطط مالية طويلة الأجل محفوفة بعدم اليقين. ففي حال تراجعت أسعار النفط أكثر، ستجد المملكة نفسها أمام معادلة صعبة: عوائد نفطية أقل، ومشاريع ضخمة لا تحتمل التباطؤ، وبنوك منهكة بديون خارجية متزايدة. وهو ما قد يفتح الباب أمام مخاطر مزدوجة تهدد استقرار القطاع المالي واستدامة النمو الاقتصادي في آن واحد.
في المحصلة، فإن اندفاع البنوك السعودية نحو الاستدانة في لحظة كان يُفترض أن تميل فيها الكفة لصالح التريث، يعكس نجاحاً قصير الأجل في استغلال ثقة الأسواق، لكنه يكشف في العمق عن تحديات هيكلية أكبر مرتبطة بالاقتصاد السعودي نفسه.
وبينما تراهن المملكة على أن مشاريع التحول الاقتصادي ستؤتي ثمارها وتقلل الاعتماد على النفط، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع البنوك مواصلة هذا المسار التوسعي في ظل اقتصاد عالمي متقلب وسوق نفطية تتآكل يوماً بعد يوم؟