
الاقتصاد العالمي | بقش
أعلنت بلومبيرغ نقلاً عن بنك التسويات الدولية أن أسواق الذهب تشهد تحولاً جذرياً، يبتعد فيها المعدن النفيس عن دوره التاريخي كملاذ آمن، ليقترب أكثر من سلوك الأصول عالية المخاطر. هذا التحول المفاجئ يضع الأسواق أمام موجة جديدة يصعب التنبؤ بنتائجها، خصوصاً مع تسارع عمليات الشراء من مستثمرين أفراد ومؤسسات تحت تأثير توقعات خفض الفائدة وارتفاع شهية المخاطرة.
ويشير البنك وفق اطلاع مرصد “بقش” إلى أن صعود الذهب بنحو 20% منذ سبتمبر 2025 لم يأت نتيجة مخاوف اقتصادية أو سياسية كما كان يحدث سابقاً، بل نتيجة موجة شراء مضاربية ضخمة غذّتها الضجة الإعلامية والرغبة في تحقيق مكاسب سريعة. هذا السلوك غير المألوف يعكس حالة فصل غير مسبوقة بين الذهب ووظيفته الاقتصادية الطبيعية، ويخلق بيئة قد تتحول إلى فقاعة واسعة إذا لم تُضبط إيقاعات السوق.
وتُظهر البيانات التي استندت إليها بلومبيرغ أن الارتفاع السعري للذهب تزامن للمرة الأولى منذ خمسين عاماً مع ارتفاع حاد في أسواق الأسهم، خصوصاً أسهم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، ما دفع بنك التسويات الدولية للتحذير من أن فئتين مختلفتين من الأصول دخلتا معاً منطقة “الانفجار السعري”. وهي ظاهرة لا تحدث إلا عندما يتحول المزاج الاستثماري من التحوط إلى المبالغة في المخاطرة.
ويؤكد البنك أن هذه التحولات تحدث في وقت تشهد فيه الاقتصادات المتقدمة إصدارات ضخمة من السندات الحكومية، أدت إلى قلب العلاقات التقليدية بين الأسعار والفوائد. ونتيجة ذلك، فقدت السندات دورها القديم كأداة موازنة للمخاطر، ما جعل المحافظ الاستثمارية مكشوفة أمام موجات التقلب، ودفع صناديق التحوط إلى تكثيف صفقات القيمة النسبية عبر مقايضات أسعار الفائدة، في خطوة تزيد من هشاشة المشهد المالي العالمي.
الذهب يبتعد عن دوره التاريخي
شهد الذهب تحوّلاً جذرياً في طبيعته الاقتصادية حسب تتبُّع بقش، فبدلاً من أن يكون أداة للهروب من المخاطر، أصبح جزءاً من موجة استثمارية عالية المخاطر. ويشير بنك التسويات الدولية إلى أن الارتفاع لم يعد مرتبطاً بتنامي الإضطرابات، بل أصبح انعكاساً لاندفاع شرائي تغذّيه التوقعات المتفائلة بخفض الفائدة وارتفاع السيولة.
ووفق ما نقلته بلومبيرغ، فإن المستثمرين الأفراد لعبوا دوراً مركزياً في تضخيم الارتفاعات، متجاوزين دور المؤسسات التي كانت تاريخياً المحرك الرئيسي لسوق الذهب. وهذا التغير يعطل آلية التسعير المستقرة التي تعتمد على الطلب التحوّطي، ويضع السوق تحت رحمة الاتجاهات قصيرة الأجل.
ويرى محللو البنك أن الذهب لم يعد يتحرك بوصفه ملاذاً من المخاطر، بل أصبح يشارك في صناعتها، وهو ما يرفع احتمالات حدوث تصحيح سعري مفاجئ إذا تغيرت الظروف النقدية أو انخفضت شهية المخاطرة فجأة.
اقتران الذهب بالأسهم يدخل الأسواق في “منطقة الفقاعة”
للمرة الأولى منذ نصف قرن، تسجّل الأسواق صعوداً متزامناً للذهب ولأسهم التكنولوجيا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، في ظاهرة وصفها بنك التسويات الدولية بـ”المنطقة الانفجارية”. هذا التزامن يكشف عن موجة عالمية من الاندفاع نحو الأصول مرتفعة المخاطر، وهو مؤشر كلاسيكي على اقتراب تكوّن فقاعة مالية واسعة.
ويرى محللو البنك، وفق تقرير بلومبيرغ، أن هذا النمط يختلف كلياً عن الديناميكيات التي سيطرت على الأسواق في العقود الماضية، إذ كان الذهب يرتفع عندما تنخفض الأسهم، والعكس صحيح. أما اليوم فقد تحولت العلاقة إلى مسار واحد، ما يجعل النظام المالي أشد عرضة لصدمات مفاجئة.
ويشير التقرير إلى أن هذا الاندماج السلوكي بين الذهب والأسهم يقلل من قدرة المستثمرين على حماية محافظهم، لأن الأصلين يتحركان في الاتجاه ذاته. وهي سابقة تاريخية تسلب الذهب دوره التحوّطي، وتطلق الأسواق في مسار غير مستقر.
الديون الحكومية تقلب موازين المخاطر
يؤكد بنك التسويات الدولية أن الارتفاع الهائل في إصدارات السندات الحكومية خلال الفترة الممتدة من سبتمبر إلى نوفمبر أدى إلى اختفاء ما يُعرف بفارق “ميزة الأصل الآمن”. وهذا التغير أخلّ بالتوازن بين العائد والمخاطرة، وجعل المستثمرين يواجهون أصولاً حكومية تتحرك بشكل غير منطقي مع بقية الأصول.
ويرى البنك، وفق ما نشرته بلومبيرغ، أن طفرة الإصدارات فتحت الباب أمام صناديق التحوط لاستغلال حالة الارتباك، لتدخل بقوة في صفقات مقايضات الفائدة، ما زاد من تقلب الأسواق بدلاً من تهدئتها. وهو مؤشر على أن الأسواق باتت تتحرك وفق موجات تقنية قصيرة الأجل، وليست وفق قواعد اقتصادية راسخة.
ويحذر البنك من أن هذا التغير في بنية سوق السندات قد يساهم في تفاقم أي هزة مستقبلية، لأن الأداة التي كانت تقوم مقام صمام الأمان في الأزمات لم تعد تؤدي وظيفتها، بل أصبحت جزءاً من منظومة المخاطر.
فقاعة متعددة المستويات تهدد النظام المالي
يرسم البنك صورة مركبة لمشهد مالي يتحرك فوق أرضية مشبعة بالتقلبات، حيث يلتقي ارتفاع الذهب المضاربي مع تضخم تقييمات التكنولوجيا، وتغير طبيعة السندات الحكومية، وتوقعات خفض الفائدة المفرطة. وتجمع هذه العناصر لتشكّل دائرة كاملة من المخاطر المتداخلة.
وتشير البيانات التي طالعها بقش لدى بلومبيرغ إلى أن المستثمرين باتوا يدفعون أموالهم نحو أصول كان يُفترض أن تتصرف بشكل معاكس، ما أدى إلى إزالة الحدود بين المخاطر العالية والمتوسطة والمتدنية. وهذا الاندماج السلوكي يخلق بيئة قابلة للاشتعال بمجرد تبدل بسيط في السياسة النقدية.
ويرى خبراء البنك أن هذه اللحظة ليست طفرة عابرة، بل تراكم مستمر لعوامل تُشبه كثيراً المراحل التي سبقت انفجار فقاعات سابقة في أسواق السلع والعقارات والأسهم. وهو ما يجعل الأسابيع المقبلة اختباراً حقيقياً لقدرة النظام المالي على امتصاص صدمة محتملة.
تخلص قراءة بنك التسويات الدولية إلى أن الذهب لم يعد يشكل خط دفاع للمستثمرين، بل تحول إلى عنصر نشط في تكوين موجة مضاربية واسعة النطاق. هذا التحول يعكس تغيراً عميقاً في سلوك الأسواق، حيث يختفي الفصل القديم بين عمليات التحوط والمضاربة، ويظهر مكانه مزاج استثماري متشابك يضع كل الأصول في مسار واحد.
وتشير التحليلات إلى أن النظام المالي العالمي يتحرك في بيئة يغيب فيها التوازن التقليدي الذي كان يضمن استقرار المحافظ الاستثمارية. ومع ارتفاع الذهب والأسهم والسندات في الاتجاه ذاته، يصبح أي تغيير في المتوقعات النقدية كافياً لإحداث تصحيح عنيف قد يمتد عبر الأسواق كافة.
وتبقى الرسالة الأساسية، كما وردت في تقرير بلومبيرغ عن بنك التسويات الدولية، أن الذهب لم يعد يحمي المستثمرين من المخاطر، بل أصبح جزءاً من مصدرها. وفي عالم يتسم بتضخم السيولة وتفاوت التقييمات، فإن الأسواق تتحرك نحو مرحلة تتطلب قدراً غير مسبوق من الحذر والقراءة الدقيقة للاتجاهات، لأن تاريخ الأزمات يشير دائماً إلى أن الفقاعات لا تُدرك إلا بعد انفجارها.


