
تقارير | بقش
منذ أن اندلعت حرب الإبادة على غزة في السابع من أكتوبر 2023، لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية عن العمل يوماً واحداً، آلاف الغارات الجوية، مئات الأطنان من القنابل، وأسلحة وتجهيزات لم تُستخدم في أي حرب سابقة على القطاع، جُرِّبت أمام أعين العالم.
لكن خلف هذه الحرب التي تجاوزت في مآسيها حدود التوصيف القانوني، تقف شبكة معقدة من الشركات العالمية، متعددة الجنسيات، التي شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في تمكين إسرائيل من الاستمرار في حربها، سواء عبر بيع السلاح والذخائر، أو عبر تزويدها بالتكنولوجيا المتقدمة والأنظمة السحابية، أو حتى عبر توفير غطاء اقتصادي وسياحي للاستيطان.
وفق تتبُّع مرصد “بقش”، كانت ولا تزال الولايات المتحدة المورد الأول للسلاح الذي دمّر غزة، لكنها ليست مجرد دولة تدعم حليفها التقليدي، فالشركات الأمريكية العملاقة هي المحرك الرئيس لهذه الصفقات. شركة “بوينغ” زودت إسرائيل بالقنابل الذكية من نوع JDAM وGBU-39، التي وُثقت آثارها على منازل مدمرة وعائلات أبيدت بأكملها. شركة “لوكهيد مارتن” كانت جزءاً من هذه المنظومة عبر المكونات الخاصة بمقاتلات F-35 التي شاركت في القصف، إلى درجة أن محكمة استئناف هولندية أصدرت حكماً في فبراير 2024 بوقف شحنات قطع الغيار المرسلة لإسرائيل، في سابقة قضائية تعكس حجم التواطؤ الغربي في استمرار الحرب.
أما “رايثيون تكنولوجيز” أو ما بات يُعرف اليوم بـ RTX، فقد شكّلت شريكاً أساسياً لشركة Rafael الإسرائيلية في إنتاج صواريخ “تامير” التي تُستخدم في منظومات القبة الحديدية وديفيدز سلينغ. الشركة لم تكتف بتزويد إسرائيل بالصواريخ، بل أعلنت عن بناء مصنع جديد في ولاية أركنساس الأمريكية لإنتاج هذه الصواريخ بالتعاون مع تل أبيب، ما يعني أن هذه المنظومة ستظل في خدمة إسرائيل لسنوات قادمة.
ولم تكن شركة “جنرال دايناميكس” بعيدة عن المشهد الدموي، فهي جزء من سلاسل إنتاج القذائف عيار 155 ملم التي ضختها واشنطن بكميات كبيرة لتعويض مخزونات إسرائيل خلال الحرب وفق تقارير “بقش”.
وحديثاً، وبينما كانت غزة تشهد أوج الكارثة الإنسانية، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صفقة عسكرية جديدة بقيمة 6.4 مليارات دولار لصالح إسرائيل، تشمل ثلاثين مروحية هجومية من طراز أباتشي، وأكثر من ثلاثة آلاف مركبة هجومية، إضافة إلى معدات دعم لوجستي بقيمة 750 مليون دولار.
الإعلان عن الصفقة تزامن مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في لحظة كان يفترض أن يكون فيها الضغط الدولي موجهاً نحو وقف الحرب، لا نحو تغذيتها بالمزيد من الأسلحة.
الإبادة الذاتية.. أوروبا بين المنع والاستثناء
بجانب هذه الشركات الأمريكية، تعمل الشركات الإسرائيلية نفسها كأذرع صناعية للحرب. شركة “إلبيت سيستمز” وشركة “رفائيل” وشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية “IAI” هي الأعمدة الثلاثة التي أنتجت الطائرات المسيرة والصواريخ والقذائف الذكية.
هذه الشركات أدرجتها منظمة العفو الدولية خلال هذا الشهر ضمن قائمة 15 شركة متورطة في جرائم حرب محتملة ضد الفلسطينيين، بعدما تبين أن منتجاتها استُخدمت في استهداف المدنيين والبنى التحتية المدنية.
في أوروبا، تذبذب الموقف بين التشديد والمرونة. بريطانيا علقت في سبتمبر 2024 نحو ثلاثين ترخيصاً لتصدير السلاح إلى إسرائيل، لكنها أبقت على الاستثناءات الخاصة بسلسلة توريد برنامج F-35، معتبرة أن هذه المكونات “حيوية” ولا يمكن وقفها.
ألمانيا من جهتها رفعت صادراتها العسكرية لإسرائيل بشكل كبير في عام 2023، قبل أن تخفضها تدريجياً في 2024، وصولاً إلى إعلان في أغسطس 2025 بتجميد أي صادرات يمكن استخدامها في غزة.
إسبانيا – التي كان لها الدور الأكبر في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية – بدورها واجهت انتقادات حقوقية واسعة بعدما استمرت شركة “CAF” الإسبانية في تشغيل وتوسعة ترام القدس الذي يخدم المستوطنات الإسرائيلية، ما يعني انخراط الشركة المباشر في ترسيخ البنية التحتية للاستيطان، رغم التحركات الرسمية والشعبية الإسبانية الكبيرة لمناصرة غزة.
التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.. حرب من نوع جديد
لكن الحرب على غزة لم تُخض فقط عبر الطائرات والدبابات، بل أيضاً عبر الخوارزميات والأنظمة السحابية. شركتا “غوغل” و”أمازون” نفذتا مشروع “نيمبوس”، وهو عقد ضخم للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي لصالح الحكومة الإسرائيلية، رغم احتجاجات موظفين داخلهما تحذّر من استخدام هذه التكنولوجيا في استهداف الفلسطينيين.
شركة “بالانتير”، المتخصصة في تحليل البيانات الضخمة، دخلت على الخط بعقد معلن مع وزارة الدفاع الإسرائيلية في أكتوبر 2024 لتزويدها بأنظمة ذكاء اصطناعي تُستخدم في العمليات الميدانية.
كما تورطت شركات مراقبة مثل “هيكفيجن” الصينية و”كورسايت” الإسرائيلية في تزويد الاحتلال بأنظمة مراقبة وتعرف وجهي مكّنت الجيش الإسرائيلي من إحكام السيطرة على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وهذه التقنيات، التي يُسوّق لها في العالم باعتبارها أدوات أمنية، تحولت في السياق الفلسطيني إلى أدوات اضطهاد جماعي.
ولم يكن تدمير المنازل والبنية التحتية في غزة ليحدث بهذا الحجم لولا آليات الهدم الثقيلة التي وفرتها شركات عالمية. شركة “كاتربيلر” الأمريكية زودت إسرائيل بجرافات D9 العسكرية، التي استخدمت في تسوية أحياء كاملة بالأرض.
الشركة وُضعت تحت مجهر الصناديق الاستثمارية الأوروبية، ما دفع صندوق معاشات نرويجي في يناير 2024 إلى سحب استثماراته منها بسبب دورها في الانتهاكات. كما أن الشركة الكورية الجنوبية “HD Hyundai” متهمة أيضاً ببيع حفارات وآليات ثقيلة استُخدمت في عمليات الهدم بالضفة وغزة.
في قطاع المياه، برزت شركة “ميكوروت” الإسرائيلية التي تدير البنية التحتية للمياه بطريقة تُحرم الفلسطينيين من حصصهم وتمنح الأفضلية للمستوطنات، أما شركة “شيفرون” الأمريكية فقد بقيت لاعباً رئيسياً في تشغيل حقول الغاز الإسرائيلية “ليفياثان” و”تمار”، حيث أُوقف الأخير بشكل مؤقت بعد اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
الاقتصاد الرقمي لعب دوره أيضاً. فشركات سياحة عالمية مثل “Airbnb” و”Booking.com” و”TripAdvisor” و”Expedia” استمرت في إدراج عقارات داخل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، متجاهلة القوانين الدولية التي تصف هذه المستوطنات بأنها غير شرعية، وهذا النشاط يساهم في توفير غطاء اقتصادي للاستيطان، ويحوله إلى نشاط سياحي مشروع أمام العالم.
القطاع المالي لم يكن بعيداً، فقد واجه بنك “باركليز” البريطاني حملات حقوقية واسعة بسبب استثماراته في شركات السلاح المرتبطة بإسرائيل. ورغم محاولاته نفي التورط المباشر، فإن الضغط الشعبي والحقوقي استمر. وفي الجانب الإعلامي أيضاً، اتُهمت شركة “ميتا” المالكة لفيسبوك وإنستغرام بأنها تقيّد المحتوى الفلسطيني وتحذف منشورات توثق جرائم الحرب، ما يجعلها شريكاً غير مباشر في التغطية على الانتهاكات.
غزة.. بين الروبوتات والعطش والنزوح
وبينما تتحرك هذه الشركات في العواصم الكبرى وتُبرم الصفقات بالمليارات، يعيش الفلسطينيون في غزة كابوساً يومياً. الاحتلال دفع بأسلحة جديدة مثل “الروبوتات المفخخة” التي تُرسل إلى الأحياء السكنية وتُفجر عن بُعد، مسببة دماراً هائلاً ومجازر مروعة. 75% من آبار المياه دُمرت، ربع مليون طن من النفايات تراكمت في الشوارع، 270 ألف فلسطيني أُجبروا على النزوح جنوباً، و1.7 مليون يعيشون في مناطق ضيقة لا تتجاوز 12% من مساحة القطاع، فيما يشبه “معسكرات تركيز” عصرية.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع بأنه “أسوأ مستوى من الموت والدمار رأيته في حياتي”، لكنه رغم ذلك أحجم عن استخدام مصطلح “إبادة”، فيما الحقيقة على الأرض تقول إن ما يحدث في غزة لا يمكن أن يوصف بغير ذلك.
الإبادة في غزة ليست صناعة إسرائيلية خالصة، هي نتاج منظومة اقتصادية عابرة للقارات، تبدأ من مصانع السلاح في واشنطن، مروراً بخوادم الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون، ووصولاً إلى منصات السياحة الرقمية في أوروبا، وجرافات الهدم القادمة من كوريا الجنوبية.
كل هذه الشركات، سواء أكانت واعية بدورها أم لا، ساهمت في استمرار حرب الإبادة على غزة، وأثبتت أن منطق الربح يعلو على منطق القانون، وأن الحياد الذي تدعيه هذه المؤسسات ليس سوى غطاء لجرائم حرب تُرتكب أمام العالم.