
تقارير | بقش
تشهد خريطة الطاقة الأوروبية واحدة من أكبر التحولات الاستراتيجية منذ عقود، مع بدء تآكل النفوذ الروسي في قطاع النفط والمنتجات المكررة على نحو متسارع. فالدول التي اعتمدت بشكل كبير على شركات مثل «لوك أويل» و«روسنفت» بدأت تتجه، تحت ضغط العقوبات، نحو تفكيك آخر الروابط التي كانت تسمح لموسكو بالحفاظ على حضورها داخل السوق الأوروبية. هذا التحول لا يقتصر على تغيير موردين فحسب؛ بل يشمل إعادة تشكيل ميزان القوة داخل سوق الطاقة العالمي.
وتتزامن هذه الخطوة مع نزعة أوروبية متزايدة للانفصال عن البنية التحتية الروسية، سواء عبر البيع الإجباري للأصول أو عبر السيطرة المباشرة على منشآت حيوية لضمان الإمدادات. وعلى الرغم من أن بعض الدول لا تزال تستفيد من الاستثناءات، إلا أن البدائل المتاحة كفيلة بإنهاء الاعتماد التاريخي على النفط الروسي، بما يعكس رغبة بروكسل في تقليص قدرة موسكو على استخدام الطاقة كأداة جيوسياسية.
وفي المقابل، تتحسس أوروبا طريقها في مرحلة حساسة تتداخل فيها اعتبارات الأمن القومي مع حسابات السوق، خصوصاً أن العقوبات الجديدة لا تستهدف الخام فقط، بل تمتد إلى المنتجات المكررة وسلاسل إعادة التصدير التي شكّلت منفذاً واسعاً لروسيا خلال العامين الماضيين وفق اطلاع مرصد «بقش». وقد يدفع إغلاق هذه القنوات إلى إعادة توزيع حركة التجارة في البحر المتوسط والخليج والهند، مع تأثيرات محتملة على أمن الطاقة العالمي.
وبات السؤال الآن: هل تمثل هذه الإجراءات بداية النهاية للنفوذ الروسي داخل أوروبا، أم إن موسكو ستجد طرقاً جديدة للالتفاف، كما فعلت سابقاً عبر «أسطول الظل»؟ الإجابة تعتمد على مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على سد الثغرات الرقابية وتعزيز أدوات الإنفاذ، في وقت تتغير فيه معادلات السوق بشكل أسرع مما جرى توقّعه.
إعادة رسم النفوذ الطاقي في شرق أوروبا
تشكل رومانيا ومولدوفا نموذجين واضحين للتحول الجاري؛ إذ اختارت الأولى الامتثال الكامل للعقوبات، ما أدى إلى تسريع بيع مصفاة «بتروتيل»، أحد أبرز الأصول الروسية في المنطقة. أما مولدوفا فاتجهت إلى السيطرة على البنية التحتية لوقود الطائرات التابعة لـ«لوك أويل» للحفاظ على استقرار الإمدادات. وتكشف هذه الخطوات عن اتجاه نحو إقصاء الشركات الروسية من أبرز نقاط النفوذ التقليدية.
وفق تناوُل «بقش» يمثل هذا التغيير انعكاساً لتحول أوسع في أوروبا الشرقية، التي كانت لفترة طويلة أكثر المناطق اعتماداً على النفط الروسي. فالقرارات الأخيرة لا تنفصل عن مسار طويل بدأ منذ 2022، لكنه بلغ اليوم مرحلة متقدمة من تفكيك الوجود الروسي في قطاعات حيوية، مع تعزيز دور الشركات الأوروبية والإقليمية في إدارة سلسلة الإمدادات.
وفي ظل هذا التحول، تتنامى المخاوف الروسية من خسارة آخر الأصول الاستراتيجية التي كانت تعتمد عليها للنفاذ إلى السوق الأوروبية. ورغم محاولات موسكو إعادة التموضع عبر قنوات غير رسمية، فإن اتجاه دول المنطقة نحو التشدد يعكس رغبة واضحة في منع أي ارتداد يعيد النفوذ الروسي من بوابة الطاقة.
المجر وسلوفاكيا… آخر جيوب الاعتماد على «دروجبا»
تُعد المجر وسلوفاكيا آخر دولتين في الاتحاد الأوروبي تواصلان استيراد النفط الروسي بموجب استثناء خاص من منظومة العقوبات. ويعود ذلك إلى اعتمادهما الكبير تاريخياً على خام «دروجبا»، الذي شكّل شرياناً أساسياً للصناعات المحلية لسنوات طويلة. غير أن الإعفاء الأمريكي لشركة «مول» المجرية لمدة عام واحد فقط يجعل هذه الوضعية مؤقتة.
وتشير البيانات المتاحة إلى أن البدائل موجودة بالفعل، أبرزها خط أنابيب «أدريا» الممتد من كرواتيا، والقادر على نقل ما يصل إلى 480 ألف برميل يومياً من النفط غير الروسي، وهو ما يكفي لتغطية كامل احتياجات المنطقة. وهذا يعني أن استمرار الاعتماد على موسكو لم يعد خياراً اقتصادياً بقدر ما أصبح قراراً سياسياً يحمل كلفة متزايدة.
وإذا رفضت بودابست وقف المشتريات بعد انتهاء الإعفاء، فقد تتحول إلى آخر معقل روسي فعلي داخل السوق الأوروبية. وسيضع ذلك الحكومة المجرية أمام ضغوط غربية متصاعدة، وسط مخاوف من أن تمثل هذه الاستمرارية نقطة ارتكاز لموسكو في إطار صراع النفوذ على أسواق الطاقة.
العقوبات على المنتجات المكررة… نقطة تغيير في سلاسل التجارة العالمية
مع دخول العقوبات الأوروبية الجديدة على المنتجات المكررة حيّز التنفيذ مطلع يناير، يواجه قطاع الطاقة العالمي إعادة تشكل عميقة. فـ«ثغرة التكرير» التي سمحت لروسيا بتحويل الخام إلى منتجات عالية القيمة خارج حدودها ثم إعادة تصديرها إلى أوروبا بدأت تُغلق تدريجياً، ما يضع ضغوطاً على مراكز الشحن التي اعتمدت على هذه الممارسة لسنوات.
وتبرز الهند ضمن أبرز المتأثرين، حيث استهدفت العقوبات مصفاة «نايارا» التي تُعد «روسنفت» الروسية أبرز مساهميها.
وسيؤدي هذا إلى تغيير مسار تدفق الديزل والبنزين إلى أوروبا، مع احتمال تصاعد دور دول أخرى مثل الخليج وإفريقيا في سد الفجوة.
ومع ذلك، تبقى قدرة أوروبا على رصد مصدر الخام المستخدم في التكرير محدودة، خاصة في الدول التي تحتضن مجمعات تكرير دولية معقدة مثل الإمارات ومصر. هذا الضعف الرقابي يمثل الثغرة الأكبر التي قد تسمح باستمرار تدفق المنتجات ذات الأصل الروسي إلى السوق الأوروبية بطريقة غير مباشرة.
«أسطول الظل»… التكيف الروسي المستمر رغم القيود
لسنوات، استطاعت روسيا تطوير شبكة واسعة من الناقلات التي تعمل خارج الأنظمة المالية الغربية، وهو ما عُرف بـ«أسطول الظل». وقد ساعد هذا الأسطول على استمرار تدفق النفط الروسي رغم العقوبات، مستفيداً من ممارسات غير شفافة وتسجيلات بحرية معقدة وأساليب إعادة شحن يصعب تتبعها بدقة.
ومع تشديد الاتحاد الأوروبي القيود على كل من الخام والمنتجات المكررة، تزداد أهمية هذا الأسطول لموسكو، خصوصاً مع تعثر بعض القنوات التجارية الرسمية. غير أن التوسع في استخدامه حسب تحليل بقش يرفع المخاطر التشغيلية، ويعرض روسيا لشبكة من المخاطر المالية والتجارية المتراكمة، مع ازدياد صعوبة التأمين والتمويل والمرور في عدة ممرات بحرية.
ويبدو أن السوق العالمي يتكيف بدوره مع هذه التحولات، إذ بدأت طرق جديدة للتجارة تتشكل بعيداً عن المظلة الغربية، ما يعيد تشكيل خريطة الطاقة نحو مسارات أكثر تعقيداً، خصوصاً في آسيا وأفريقيا، حيث تغيب الرقابة الغربية ويزداد النفوذ الروسي والصيني المتنامي.
يخلص «بقش» إلى أن قطاع الطاقة العالمي يقف عند مفترق طرق حقيقي، إذ تتسارع خطوات أوروبا لتقليص الاعتماد على روسيا، بينما تبذل موسكو جهداً مضاعفاً للحفاظ على ما تبقى من نفوذها عبر أدوات غير تقليدية. والنتيجة هي سباق سياسي–اقتصادي يتجاوز حدود السوق ليعيد رسم موازين القوة في مناطق واسعة من العالم.
ومع تضييق الخناق على الشركات الروسية وارتفاع كلفة الالتفاف على العقوبات، يقترب العالم من مرحلة جديدة تتراجع فيها قدرة الطاقة الروسية على التأثير في القرارات الأوروبية. غير أن ما إذا كان هذا التحول سيكون مستقراً أم مؤقتاً سيعتمد على قدرة الاتحاد الأوروبي على سد الثغرات، وعلى قدرة موسكو في المقابل على تكوين شبكات بديلة تضمن استمرار حضورها في سوق يزداد انقساماً.


