تقارير
أخر الأخبار

تدفّق السلاح المسروق من الجيش الإسرائيلي: انهيار الرقابة العسكرية وصعود ميليشيات المستوطنين

تقارير | بقش

شهدت إسرائيل خلال العامين الماضيين واحدة من أكبر الأزمات الأمنية الداخلية في تاريخها، بعد تدفّق كميات ضخمة من الأسلحة المسروقة من قواعد الجيش ومخازنه إلى السوق السوداء. هذا الانفلات غير المسبوق أطلق موجة عنف واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي، وأعاد تشكيل منظومة الجريمة المنظمة، وكشف عن ثغرات عميقة في الأجهزة العسكرية. وعلى الرغم من الضجة التي أثارها الملف، ما زالت التفاصيل الأكثر حساسية محاطة بضباب كثيف، خصوصاً ما يتعلق بتورط عناصر داخل الجيش في عمليات السرقة والتهريب.

تظهر التقارير الميدانية التي تتبَّعها بقش أن الفوضى التي تبعت 7 أكتوبر فتحت الباب أمام شبكات واسعة لسرقة السلاح، بعضها منظم ومحترف، وبعضها الآخر نابع من داخل المؤسسة العسكرية نفسها. فالتسريبات تشير إلى أن عدداً من الجنود استغلوا الفوضى وانسحاب قوات الاحتياط لتسهيل إخراج أسلحة نوعية من منشآت حساسة، بعضها تقريري الطوارئ ووحدات التدريب. هذا الانهيار في الرقابة يكشف هشاشة لم تكن متوقعة في مؤسسة تعتمد على صورتها الأمنية القوية.

وفي ظل حالة الارتباك، تصاعدت شكوك داخلية وخارجية بأن جزءاً من هذا الانهيار قد يكون مقصوداً، أو على الأقل تم التغاضي عنه، بهدف تمرير أسلحة إلى جماعات المستوطنين في الضفة الغربية لتعزيز نفوذهم وتنفيذ اعتداءات منظمة ضد الفلسطينيين. هذه الشكوك تستند إلى تزامنين لافتين: تراجع الرقابة العسكرية بشكل حاد، وظهور مجموعات مستوطنين مسلّحة بأسلحة عسكرية حديثة لم تكن متاحة لهم سابقاً.

اختراق منظومة الجيش وتهاوي الرقابة على المخازن العسكرية

شهدت المنظومة العسكرية الإسرائيلية اختراقات خطيرة خلال العامين الماضيين، خصوصاً في مخازن الجنوب التي تُعد مركزاً لأسلحة الطوارئ. فقد أظهرت التحقيقات أن عمليات السرقة لم تكن مجرد اقتحامات عشوائية، بل جاءت نتيجة تنظيم داخلي مكثف شارك فيه جنود، وعمال صيانة، وأشخاص لديهم معرفة دقيقة بمواقع السلاح وآليات الرقابة حسب اطلاع بقش. وهذا النوع من الاختراق يختلف جذرياً عن تهريب السلاح التقليدي الذي كانت تتعامل معه إسرائيل في السابق.

وتشير المصادر الأمنية إلى أن وحدات الجيش المسؤولة عن الإمداد عانت من نقص كبير في الأفراد بعد الحرب، ما جعل مواقع حساسة خالية من الحراسة أو مراقبة بكاميرات معطلة. في تلك الفترة، تحركت شبكات تهريب بدوية نشطة في النقب، واستطاعت الاستفادة من تراجع الجاهزية العسكرية لسرقة أسلحة نوعية، بما في ذلك بنادق M16، قنابل يدوية، وذخائر متنوعة. حجم السرقات دفع بعض القيادات العسكرية إلى الاعتراف بأن المؤسسة تواجه “أسوأ انهيار رقابي منذ عقود”.

ولم تتوقف الفضيحة عند مجرد السرقة، بل امتدت إلى الشكوك حول دور ضباط في تسهيل مرور الشحنات عبر نقاط التفتيش العسكرية. فبعض الشحنات خرجت في سيارات عسكرية أو شاحنات تابعة لمقاولين يملكون عقوداً رسمية مع الجيش. هذا النوع من التهريب المنظم أثار تساؤلات عن إمكانية وجود مصالح مشتركة أو جهات داخل الجيش ترى في هذه الفوضى فرصة لإعادة تشكيل البيئة الأمنية في الضفة الغربية عبر تسليح المستوطنين.

انهيار أسعار السلاح في السوق السوداء وتدفق كميات غير مسبوقة

أدى تدفق السلاح إلى انهيار الأسعار بشكل صادم، ما كشف حجم الانفلات. فالبنادق من طراز M16، التي كانت تباع سابقاً بأسعار تصل إلى 140 ألف شيكل، أصبحت اليوم تُباع بنصف هذا السعر. أما المسدسات، فقد هبطت قيمتها من 20–30 ألف شيكل إلى أقل من 9 آلاف شيكل. والأخطر أن أسعار القنابل اليدوية تراجعت إلى نحو 700 شيكل، وهو ما جعلها متاحة حتى للشباب والعائلات المتصارعة داخل المدن.

هذا الانهيار لم يكن نتيجة نشاط الشرطة، بل نتيجة إغراق السوق بكميات هائلة من السلاح المسروق، الأمر الذي جعل عمليات الضبط الأمنية غير ذات جدوى. فكل سلاح يُصادر يقابله دخول عشرات الأسلحة الجديدة في اليوم ذاته، وسط فشل واضح للأجهزة الأمنية في ملاحقة سلاسل الإمداد التي باتت تعمل بطريقة تشبه الأسواق المنظمة. هذه الظاهرة تعكس ضعفاً بنيوياً في قدرة إسرائيل على حماية أمنها الداخلي في لحظة حساسة.

كما كشفت تقارير داخلية طالعها بقش أن جزءاً كبيراً من السلاح الذي دخل السوق السوداء كان حديث التصنيع، وبعضه يحمل أرقاماً عسكرية تسلسلية، ما يدل على أنه لم يمر عبر شبكات تهريب خارجية، بل جاء مباشرة من وحدات الجيش. ومع تزايد حروب العائلات في الداخل وضغط العصابات، باتت الشرطة عاجزة عن السيطرة على الوضع، ما أدى إلى انتشار غير مسبوق في عمليات إطلاق النار والعنف المسلح داخل المجتمع الإسرائيلي.

تسليح المستوطنين عبر قنوات مظللة وشبه رسمية

في خضم الفوضى، تبرز اتهامات خطيرة بأن جزءاً من الفوضى الأمنية نابع من تغاضٍ مقصود داخل الجيش لتغذية مجموعات المستوطنين بالسلاح. فقد ظهرت خلال العامين الماضيين مجموعات مسلحة بين المستوطنين تمتلك أسلحة عسكرية جديدة لم تكن تصلهم سابقاً عبر القنوات الرسمية. وتشير منظمات إسرائيلية إلى أن هذا التسليح جاء عبر “شبكات غير مباشرة” تتضمن تجاراً مرتبطين بعناصر عسكرية، ما يجعل عملية التتبع شبه مستحيلة.

وتزامن هذا الظهور مع موجة اعتداءات غير مسبوقة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث استخدمت مجموعات المستوطنين بنادق M16 معدلة، وقنابل صوتية وغازية من النوع المستخدم حصراً في الجيش الإسرائيلي. هذه الأسلحة شوهدت في الهجمات على القرى الفلسطينية وفي عمليات التهجير القسري، ما عزز الشكوك بأن المستوطنين باتوا يتلقون دعماً تسليحياً يتجاوز قدرة الأسواق السوداء التقليدية.

اللافت أن الحكومة الإسرائيلية، رغم معرفتها بحجم انتشار السلاح، لم تطلق حملة جدية لنزعه من يد المستوطنين، بل على العكس: صدرت تصريحات عدة اطلع عليها بقش تؤكد “أهمية تمكين المستوطنين من الدفاع عن أنفسهم”. هذا الخطاب السياسي يعزز الاعتقاد بأن انهيار الرقابة العسكرية كان فرصة، أو وسيلة غير مباشرة، لتقوية ميليشيات المستوطنين في وجه الفلسطينيين وتغيير الواقع الديموغرافي بالقوة.

انتقال السلاح المسروق إلى الضفة وسيناء وامتداده إلى ساحات إقليمية

لم يقتصر تأثير السلاح المسروق على الداخل الإسرائيلي، بل امتد إلى الضفة الغربية وغزة وسيناء، ما يجعل الأزمة ذات طابع إقليمي. فقد تحدثت الأجهزة الأمنية الفلسطينية عن تدفّق غير مسبوق لأسلحة إسرائيلية حديثة إلى الضفة، بعضها محمل بأرقام تسلسلية تخص وحدات عسكرية إسرائيلية. هذا التطور غيّر طبيعة الاشتباكات بشكل جذري، وزاد من قدرة بعض المجموعات الفلسطينية على مواجهة القوات الإسرائيلية.

وفي سياق متصل، ضبطت السلطات المصرية خلال الأشهر الماضية شحنات سلاح جديدة تحمل علامات إسرائيلية داخل سيناء، ما يشير إلى توسع شبكات التهريب من النقب إلى الحدود المصرية. هذا النوع من التهريب يعكس قدرة الشبكات على تجاوز الرقابة العسكرية الإسرائيلية، ويكشف عن تأثيرات تتجاوز الحدود السياسية والجغرافية.

أما في غزة، فقد تحدثت تقارير إعلامية إسرائيلية عن مخاوف متزايدة من وصول بنادق ومسدسات عسكرية حديثة إلى القطاع عبر الأنفاق. ورغم أن إسرائيل تحاول التقليل من أهمية هذه المخاوف، إلا أن تقارير عسكرية سابقة اعترفت بأن أي قطعة سلاح مسروقة من الجيش “قد تنتهي في النهاية حيث لا يجب أن تكون”، في إشارة واضحة إلى التنظيمات الفلسطينية.

تكشف ظاهرة تدفّق السلاح المسروق من الجيش الإسرائيلي عن أزمة أمنية عميقة تمتد جذورها إلى داخل المؤسسة العسكرية نفسها. فبين ضعف الرقابة، وتورط عناصر داخلية، وشبكات تهريب منظمة، لم تعد إسرائيل قادرة على ضبط حدودها الداخلية، ولا على التحكم في السلاح الذي يُفترض أنه جزء من منظومتها الدفاعية. هذا الانهيار يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الفوضى يصعب احتواؤها.

وفي ظل الاتهامات المتزايدة بأن جزءاً من هذا الانهيار كان مقصوداً لتمكين المستوطنين من بناء ميليشيات مسلحة، تدخل إسرائيل مرحلة حساسة تتراجع فيها سلطة الدولة لصالح جماعات أيديولوجية تمتلك سلاحاً وتعمل على تغيير الواقع بالقوة وفق قراءة بقش. هذا التحول لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد إسرائيل نفسها، ويكشف تصدعاً داخلياً لا يمكن تغطيته عبر الرواية الرسمية.

ومع انتقال السلاح المسروق إلى الضفة وسيناء وربما أبعد من ذلك، يتضح أن الأزمة تجاوزت كونها “انفلاتاً” في السوق السوداء، لتصبح أزمة استراتيجية تهدد الأمن الإسرائيلي والإقليمي على حد سواء. فإسرائيل التي كانت تتفاخر بقدرتها على السيطرة الأمنية، تواجه اليوم حقيقة أنها فقدت السيطرة على أخطر ما تملكه: ترسانتها العسكرية.

زر الذهاب إلى الأعلى