
الاقتصاد العالمي | بقش
أصبحت معادن الأرض النادرة حجر زاوية أساسي في الاقتصاد العالمي، إذ هي ضرورية لتقنيات متقدمة مثل الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وأنظمة الطاقة المتجددة والصناعات الدفاعية، لذا فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسعى إلى الصدارة بمحاولات حثيثة للحد من اعتماد الولايات المتحدة على الصين التي تهيمن على أكثر من ثلث التعدين العالمي ونحو 85% من قدرة المعالجة، ما يجعلها اللاعب الأبرز عالمياً في هذا السوق الاستراتيجي.
من وجهة نظر واشنطن، أصبحت السيطرة على المعادن النادرة قضية أمن قومي أمريكي واستراتيجية صناعية، وسبق أن قال وزير الخزانة الأمريكي “سكوت بيسنت” إن الهدف من المساعي الأمريكية ليس الانفصال عن الصين كلياً، بل الفصل في القطاعات الاستراتيجية، وعلى رأسها المعادن النادرة.
وبتحليل “بقش” للبيانات، فإن أكبر ثماني دول إنتاجاً للمعادن النادرة في العالم، هي الصين أولاً، ثم تأتي بعدها أمريكا وبورما وأستراليا ونيجيريا وتايلاند والهند وروسيا.
اتفاقيات دولية وقّعها ترامب بسبب حظر الصين
في جولته الآسيوية التي شملت اليابان وكوريا الجنوبية قبل لقائه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، وقّع ترامب اتفاقية مع “ماليزيا” لتوسيع الاستثمار والتجارة في قطاع المعادن النادرة، وفق اطلاع مرصد “بقش” على تصريحات للممثل التجاري الأمريكي جيمسون غرير.
وهذا الاتفاق التجاري مع ماليزيا يعزز وصول واشنطن إلى المعادن النادرة في وقت تشدد فيه الصين الضوابط على تصديرها. إذ أعلنت بكين، في وقت سابق من أكتوبر الجاري، قيوداً واسعة على قطاع المعادن الأرضية النادرة، مما دفع ترامب للتهديد برسوم جمركية نسبتها 100% على الواردات الصينية رداً على هذه الخطوة.
وبموجب الاتفاق الأمريكي الماليزي الجديد، تتعهّد كوالالمبور “بالامتناع عن حظر أو فرض حصص على صادرات المعادن الحيوية إلى الولايات المتحدة”، مقابل فرض رسوم جمركية أمريكية بنسبة 19% على السلع الماليزية، كما تعهدت ماليزيا بتسريع تطوير قطاع المعادن النادرة بالتعاون مع شركات أمريكية، بما في ذلك تمديد تصاريح التشغيل لتعزيز القدرات الإنتاجية.
كما أعلن عن اتفاق آخر مع تايلاند لتعزيز التعاون في مجال المعادن الأساسية وضمان اندماج تايلاند في سلاسل توريد عالمية آمنة، بالتزامن مع توقيع اتفاق لتقليل التوتر بين كمبوديا وتايلاند وفق اطلاع بقش، وهذه الاتفاقيات تؤكد نهج إدارة ترامب في ربط المصالح الاقتصادية بالتوازنات السياسية في المنطقة، بما يعزز النفوذ الأمريكي سعياً لتقليل هيمنة الصين.
وقبل أيام من جولة ترامب الآسيوية، وقّعت واشنطن وأستراليا اتفاقاً بقيمة 8.5 مليارات دولار يشمل المعادن الحيوية والنادرة، خلال اجتماع في البيت الأبيض بحضور رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي. وتحتل أستراليا المرتبة الرابعة عالمياً في احتياطيات المعادن النادرة، مما يجعلها شريكاً استراتيجياً هاماً للولايات المتحدة.
وفي أوروبا الشرقية، وقّع ترامب اتفاقاً يمنح الشركات الأمريكية أولوية الوصول إلى أكثر من 100 موقع من رواسب المعادن النادرة في أوكرانيا، بينما عرضت روسيا اتفاقاً مماثلاً لم يتحقق بعد، مما يعكس تعقيدات الصراع الإقليمي وأهمية المعادن كأداة نفوذ دولي.
وفي سبتمبر الماضي، وقعت باكستان اتفاقاً بقيمة 500 مليون دولار مع شركة “يو إس ستراتيجيك ميتالز” الأمريكية حسب متابعات بقش، مَنَحَها حق استخراج المعادن الحيوية والنادرة، وقد تم تسليم أول شحنة إلى الولايات المتحدة خلال أكتوبر الجاري.
وتدخلت واشنطن أيضاً في الوساطة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا لضمان الوصول إلى المعادن النادرة في كينشاسا، رغم استمرار هشاشة اتفاق السلام، وهو مؤشر على حرص الإدارة الأمريكية على بناء سلاسل توريد مستقرة بعيدة عن تأثير الصين المباشر.
دعم الشركات الأمريكية
ولم تقتصر استراتيجية ترامب على الاتفاقيات الحكومية، بل شملت دعم الشركات الأمريكية، حيث استثمرت وزارة الحرب الأمريكية “البنتاغون” 400 مليون دولار في شركة “إم بي ماتيريالز” الرائدة في إنتاج المعادن الأرضية النادرة، واعتُبرت هذه الخطوة تحولاً كبيراً في السياسات الصناعية الأمريكية.
وإلى جانب ذلك، تفيد وكالة بلومبيرغ بأن واشنطن تخطط لإنشاء صندوق استثماري بقيمة 5 مليارات دولار لدعم قطاع التعدين حسب اطلاع بقش على الوكالة، مما يعكس رغبة إدارة ترامب في بناء بنية تحتية محلية متكاملة لا تعتمد على المعالجة الصينية.
أزمة الصين وتأثيرها العالمي
مع فرض الصين هذا الشهر قيوداً صارمة على تصدير المعادن النادرة، اعتَبر ترامب ذلك أنه “عدائي وغير مسبوق”، مهدداً بفرض رسوم إضافية بنسبة 100% على بعض السلع ووضع ضوابط تصدير على البرمجيات المهمة، وهدد بإلغاء لقائه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، في تصعيد أعاد شبح الحرب التجارية إلى الواجهة.
وهذه القيود لم تؤثر على الولايات المتحدة وحدها، بل أربكت الأسواق العالمية، إذ دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاتحاد الأوروبي لاستخدام “أداة مكافحة الإكراه” إذا لم يتم التوصل إلى حل.
كما هيمنت القضية على اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، حيث أشار وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت هناك إلى إمكانية إنشاء تحالف دولي لمواجهة الصين يضم حلفاء أمريكيين وأوروبيين وأستراليين وكنديين وهنوداً وديمقراطيات آسيوية أخرى.
ولم تتأخر الصين في الرد، حيث عقدت اجتماعاً واسعاً مع شركات أجنبية في 22 أكتوبر، وأكدت أن القيود الجديدة لا تهدف إلى تقييد التجارة، بل لضمان استقرار سلاسل التوريد العالمية.
البرازيل وكندا: شراكات مستقبلية محتملة
لأن ملف المعادن النادرة يُعتبر محور اهتمام أمريكي كبير، يُتوقّع أن يشمل دولاً أخرى ذات احتياطيات ضخمة مثل كندا والبرازيل.
فالبرازيل، التي تمتلك أكبر احتياطي بعد الصين، تُعد قوة تعدين عالمية وقريبة جغرافياً من الولايات المتحدة، وهو ما يجعلها شريكاً استراتيجياً.
والتقى ترامب بالرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على هامش قمة “آسيان”، وقال الأخير إن من الممكن التوصل إلى اتفاق نهائي حول الملفات التجارية خلال أيام، في مؤشر على مرونة دبلوماسية قد تفيد الطرفين.
وأشار دا سيلفا إلى أن ترامب ضَمِن أن البلدين سيتوصلان إلى اتفاق بشأن التجارة، وأنه سيتم التوصل إلى اتفاق “أسرع مما يعتقده أي شخص” حسب اطلاع بقش على ما نشرته وكالة رويترز.
تهدئة محتملة مع الصين
بعد يومين من المحادثات، صرح مسؤول صيني بأن الجانبين توصلا إلى توافق أولي بشأن ضوابط التصدير، بينما قال وزير الخزانة الأمريكي إن تهديد ترامب الأخير “بات عملياً غير مطروح”.
وتوقعت واشنطن أن تؤجل بكين القيود الواسعة لمدة عام لإعادة النظر فيها، ويشير هذا التطور إلى تهدئة محتملة في الملف التجاري، مع استمرار تصميم الإدارة الأمريكية على تحقيق استقلالية استراتيجية في المعادن النادرة.
وثمة فرص استراتيجية تتمثل في تنويع مصادر المعادن النادرة خارج الصين، والاستثمار في الشركات المحلية، وإنشاء صناديق دعم، والوساطة الدولية لفتح أسواق جديدة.
لكن هناك تحديات أمام الولايات المتحدة، تشمل قوة الهيمنة الصينية على التكرير والمعالجة، وهشاشة بعض الاتفاقيات مثل الكونغو ورواندا، وطبيعة الأسواق العالمية المتقلبة.
وبشكل عام يمثل ملف المعادن النادرة حجر زاوية في استراتيجية ترامب لتحقيق استقلال اقتصادي واستراتيجي لأمريكا، مع تحركات دبلوماسية وتجارية واسعة تشمل أكثر من قارة، في محاولة لكسر هيمنة الصين على سوق عالمي حيوي.


