ترامب يعيد إشعال العالم بالنفط.. كيف تقود الولايات المتحدة حملة مضادة للمناخ؟

الاقتصاد العالمي | بقش
مع اقتراب انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP30) في البرازيل، تبدو الولايات المتحدة وقد تحولت من لاعب في مفاوضات المناخ إلى قوة مضادة تسعى لإعادة الاعتبار للوقود الأحفوري. فبعد أن كان العالم على وشك تحقيق اختراق بيئي تاريخي عبر إقرار ضريبة كربون عالمية على قطاع الشحن البحري، نسفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوافق الدولي بهجوم دبلوماسي ضاغط أعاد النفط والغاز إلى صدارة المشهد.
هذه العودة الأمريكية العنيفة إلى خطاب الطاقة التقليدية لم تُربك فقط المفاوضات المناخية، بل أعادت ترتيب ميزان القوى داخل المنظومة البيئية العالمية، إذ وجدت دول النفط الكبرى، مثل السعودية وإيران، في واشنطن حليفاً جديداً يشاركها الرؤية القائمة على “واقعية السوق” لا “خيال الانبعاثات الصفرية”.
وبينما يواصل دعاة البيئة التحذير من خطر تجاوز الكوكب عتبة الاحترار الحراري، تفرض الولايات المتحدة، من موقعها الاقتصادي والسياسي، أجندة “الطاقة أولاً” على العالم، ما يُنذر بتقويض أعوامٍ من التقدم في السياسات المناخية الدولية.
واشنطن تُسقط أول ضريبة كربون عالمية
كانت المنظمة البحرية الدولية (IMO) على وشك إقرار ضريبة كربون عالمية في أكتوبر 2025، بعد مفاوضات استمرت سنوات وتهدف إلى الحد من الانبعاثات الناتجة عن الشحن البحري. لكنّ المشهد انقلب مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إذ شنّت إدارته حملة ضغط عنيفة لإفشال الاتفاق.
بحسب مصادر نقلتها “بلومبيرغ”، هددت واشنطن دولاً داعمة للضريبة بفرض رسوم جمركية وعقوبات على الأفراد والشركات، ومنع سفنها من دخول الموانئ الأمريكية وفق اطلاع مرصد “بقش”. وتحت هذا الضغط، صوتت كتلة ضمت الولايات المتحدة والسعودية وإيران على تأجيل الاجتماع عامًا كاملًا، ما أجهض أي أمل في تبني الإجراء قريباً.
يصف فايق عباسوف، مدير مجموعة النقل والبيئة الأوروبية، ما حدث بأنه “تنمر دبلوماسي”، مضيفاً أن إدارة ترامب “تشن حرباً مفتوحة على التعاون الدولي والمناخ”. ومع انسحاب واشنطن مجدداً من اتفاقية باريس للمناخ، باتت الولايات المتحدة تُقاتل في الاتجاه المعاكس، مستخدمة أدوات القوة الاقتصادية بدل الحوار المناخي.
مناخ مُعاد تدويره.. النفط قبل الكوكب
منذ عودته إلى السلطة، جعل ترامب من “الطاقة أولاً” شعاراً فعلياً لسياسته الخارجية. يستخدم المفاوضات التجارية، وتهديدات الرسوم الجمركية، كأدوات لإجبار الدول على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأمريكي بدل الاستثمار في الطاقة النظيفة.
وخلال عشرة أشهر فقط من ولايته الثانية، نجح ترامب في فرض واقع جديد: اليابان التزمت باستثمار 550 مليار دولار في مشاريع طاقة أمريكية، بينها خط أنابيب في ألاسكا، بينما كوريا الجنوبية وافقت على شراء طاقة أمريكية بقيمة 100 مليار دولار، فيما أعلن الاتحاد الأوروبي التزاماً بقيمة 750 مليار دولار لشراء الغاز الأمريكي، مقابل خفض الرسوم على صادراته الصناعية إلى واشنطن.
رغم الشكوك حول تنفيذ هذه الصفقات بالكامل، إلا أن الإعلان عنها وحده شكّل تحولاً جذرياً في مواقف شركاء واشنطن التقليديين في سياسات المناخ، إذ تحولت أوروبا من رائدة “الصفقة الخضراء” إلى زبونٍ ضخم للغاز الأمريكي تحت ضغط الرسوم والعقوبات.
ولم يقتصر تأثير ترامب على الأسواق، بل امتد إلى المؤسسات متعددة الأطراف حسب متابعات بقش. فقد مارست واشنطن ضغطاً متزايداً على وكالة الطاقة الدولية (IEA) لتغيير قيادتها وإعادة صياغة توقعاتها لتبدو أكثر تفاؤلاً تجاه الوقود الأحفوري. كما طالبت بنوك التنمية الدولية بإعطاء الأولوية لتمويل مشاريع النفط والغاز بدل الطاقة النظيفة.
في أوروبا، استغلت الإدارة الأمريكية اتفاقيات التجارة المشتركة للضغط من أجل تخفيف قيود الميثان المفروضة على الغاز المستورد، وأقنعت بروكسل بتقليص معايير الاستدامة البيئية للشركات، بدعم من ألمانيا وبعض الأطراف المقرّبة من قطاع الطاقة.
تقول آبي إينيس، الأستاذة في كلية لندن للاقتصاد، إن “واشنطن تمارس سياسة فرق تسد في قضايا الطاقة، لأن مصالحها تكمن في إضعاف أي جبهة منسقة ضد الوقود الأحفوري”. وبهذا النهج، تنجح الولايات المتحدة في إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي حول مركز ثقلها، بدل مواجهة تحديات المناخ.
ترامب في الأمم المتحدة.. من الإنكار إلى التبشير بالنفط
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، وصف ترامب سياسات المناخ بأنها “خدعة كبرى”، محذراً الدول من أنها “لن تستعيد عظمتها من دون الوقود الأحفوري”. أعاد بذلك خطاب “النفط هو القوة” إلى واجهة السياسة الدولية، ودعا علناً رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى استغلال احتياطيات بحر الشمال بدل الاستثمار في طاقة الرياح.
مقارنةً بولايته الأولى التي ركزت على شعارات مثل “احفر يا عزيزي، احفر”، تتسم أجندة ترامب الحالية باتساع النطاق وعدوانية التأثير. فهو لا يكتفي بتوسيع إنتاج النفط الأمريكي، بل يسعى لتقويض التعاون الدولي في المناخ عبر تعطيل الاتفاقيات، والتشكيك في جدوى الطاقة النظيفة، وإعادة تعريف “الاستقلال الطاقي” كمفهوم يقوم على العودة إلى الفحم والغاز والنفط.
أمام هذا المدّ الأمريكي، تبدو العواصم الأوروبية في موقف دفاعي. يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين إن “الهدف في مؤتمر COP30 بات تجنب التنمر الأمريكي أكثر من تحقيق إنجاز مناخي”.
في المقابل، يرى بعض المراقبين أن نهج ترامب يمنح غطاءً سياسياً لحكومات وشركات كبرى كانت تبحث عن ذريعة للتراجع عن التزاماتها البيئية.
ويقول توم بايل، رئيس التحالف الأمريكي للطاقة، إن “الرئيس ترامب وفّر غطاءً للبنوك والاتحاد الأوروبي لكبح طموحاتهم المناخية”، موضحاً وفق قراءة بقش أن الجميع أصبح يقول: “نحن فقط نحاول مجاراة الولايات المتحدة، ولهذا نشتري الغاز الأمريكي”.
ورغم ذلك، لا تزال قطاعات الطاقة المتجددة تشهد نمواً مستمراً في أوروبا والصين وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها. فإلغاء الحوافز لا يعني بالضرورة توقف التحول نحو الرياح والطاقة الشمسية، إذ تواصل الشركات تحسين سلاسل التوريد للامتثال لمعايير الأسواق المستدامة.
تُعيد سياسات ترامب رسم المشهد الدولي على قاعدة الطاقة لا المناخ، إذ تحوّل الوقود الأحفوري إلى أداة نفوذ جيوسياسي لا تقل قوة عن السلاح والمال.
فبينما يُحذّر العلماء من تجاوز “نقطة اللاعودة” البيئية، تفرض الولايات المتحدة منطقها الواقعي القائم على المصالح الاقتصادية المباشرة، وتحوّل مؤتمرات المناخ إلى ساحات تفاوض على الغاز والصفقات.
لكنّ المفارقة الكبرى أن هذا التوجه، وإن منح واشنطن وحلفاءها مكاسب مؤقتة، يعمّق عزلة الغرب في وجه التحالفات البيئية الجديدة بين الشرق وآسيا، ويضع العالم أمام انقسامٍ جديد: معسكر الوقود مقابل معسكر المناخ.
وبينما تُستعد البرازيل لاستضافة قمة المناخ المقبلة، يبدو أن السؤال الأهم لم يعد كيف ينقذ العالم الكوكب، بل كيف سينقذ النظام المناخي نفسه من السياسة الأمريكية.


