تقارير
أخر الأخبار

تصعيد غير مسبوق.. عمال موانئ إيطاليا: سنعرقل الشحنات التجارية المتجهة إلى إسرائيل

تقارير | بقش

في مشهد يعكس التحولات المتسارعة في الرأي العام الأوروبي تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، أعلن عمال الموانئ في عدد من المرافئ الإيطالية، وعلى رأسها ميناء جنوة، استعدادهم لتصعيد تحركاتهم وصولاً إلى فرض حظر كامل على الشحنات المرتبطة بإسرائيل، في حال تعرض “أسطول الصمود العالمي” الذي ينقل مساعدات إنسانية إلى غزة لأي هجوم.

ويضم هذا الأسطول أكثر من خمسين قارباً تحمل ناشطين ومؤناً إغاثية، بينهم الناشطة البيئية العالمية غريتا ثونبرغ، ويُتوقع أن يعبر البحر المتوسط متحدياً الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع.

التحرك الإيطالي يأتي في لحظة حساسة، إذ يتزامن مع أجواء سياسية داخلية مشحونة، ومع تصاعد الانتقادات الدولية للحرب التي تقودها إسرائيل في غزة، والتي باتت توصف في العديد من الأوساط القانونية والأكاديمية بأنها حرب إبادة تستهدف المدنيين والبنية التحتية بشكل ممنهج.

ومن شأن أي تعطيل شامل للتجارة عبر الموانئ الإيطالية أن يؤثر بشكل ملموس على سلاسل التوريد البحرية، نظراً لموقع إيطاليا الاستراتيجي في المتوسط كواحدة من البوابات التجارية الرئيسية لأوروبا.

من الاحتجاج إلى الحظر الكامل

في الأسبوع الأخير من سبتمبر، شهدت المدن الإيطالية موجة من التظاهرات الحاشدة المناصرة للفلسطينيين، شارك فيها عمال موانئ وطلاب ونقابيون وفق متابعة مرصد بقش، حيث أُغلق ميناء ليفورنو مؤقتاً ضمن احتجاجات رمزية تهدف إلى تسليط الضوء على دور الموانئ الأوروبية في تمرير شحنات السلاح والبضائع إلى إسرائيل.

وأعلن قادة نقابات الموانئ في جنوة أنهم سيعتبرون أي هجوم على أسطول المساعدات بمثابة “خط أحمر”، وأن الرد سيكون عبر إعلان إضراب شامل وفرض حظر على كافة الشحنات المرتبطة بإسرائيل، سواء كانت أسلحة أو بضائع مدنية.

ريكاردو رودينو، أحد القيادات البارزة في مجموعة عمال الموانئ (CALP) وعامل شحن مخضرم، أوضح أن “عرقلة الشحنات هي السلاح الوحيد المتاح للشعوب في مواجهة الحروب والاحتلال، نحن لا نملك دبابات ولا صواريخ، لكن يمكننا أن نمنع مرور السفن من وإلى إسرائيل”.

وأضاف أن عمال الموانئ في أوروبا يمتلكون تاريخاً طويلاً من العصيان المدني ضد شحنات السلاح، تعود جذوره إلى فترة حرب فيتنام، ثم إلى حركة المقاطعة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وبحسب رودينو، فإن عمال الموانئ الإيطاليين “يريدون أن يكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ”. وقد اكتسب اسمه شهرة واسعة الشهر الماضي بعد خطابه في إحدى الوقفات الاحتجاجية، حين قال إنهم “إذا أعاقت إسرائيل الأسطول فلن يغادر مسمار واحد من جنوة إلى إسرائيل”، في رسالة صريحة تعكس المزاج التصاعدي للحركة العمالية.

وقد توعّد عمال ميناء “جنوة” بأنه “لن يمر حتى مسمار واحد”، وهو ما حدث مساء يوم السبت 27 سبتمبر، إذ أوقفوا عملية تحميل سفينة Zim New Zealand، وهي سفينة تابعة لشركة Zim الإسرائيلية، وجاهزة لتحميل عشر حاويات تحتوي على مواد متفجرة متجهة إلى إسرائيل.

وكان رد فعل العمال فورياً، فبعد تلقيهم الخبر أثناء مسيرة المشاعل لغزة الجارية في المدينة، سار عمال الموانئ نحو المحطة ودعوا إلى إضراب فوري حسب اطلاع بقش، وكان معهم وفد أولي من المتظاهرين، مكون من طلاب ونشطاء ومواطنين، والذي سرعان ما تطور إلى مظاهرة ضمت حوالي ألفي شخص أمام مدخل الميناء.

حركات عمال الموانئ.. نضال مستمر لا يتوقف

تُعد تحركات عمال الموانئ الإيطاليين امتداداً لإرث طويل من النشاط السياسي–النقابي في أوروبا. ففي سبعينيات القرن الماضي، لعبت نقابات الموانئ دوراً محورياً في دعم حركات التحرر في آسيا وأفريقيا من خلال تعطيل شحنات السلاح، وبرزت بشكل خاص في الحملات المناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث ساهمت الإضرابات المتكررة في عزل النظام دولياً والمساهمة في الضغط لإنهاء سياساته العنصرية.

هذا التاريخ منح الحركة الحالية زخماً أخلاقياً وسياسياً. فحين يتحدث عمال الموانئ اليوم عن “حصار شامل” محتمل على التجارة مع إسرائيل، فإنهم يستدعون بوعي تجربة العقوبات الشعبية التي سُجلت في التاريخ الحديث كأداة فعالة لمواجهة الأنظمة العنصرية أو العدوانية. وميناء جنوة، الذي يُعد من أكبر موانئ أوروبا، لطالما كان مركزاً للنشاط النقابي والسياسي اليساري، ما يفسر سرعة تحوّله إلى منصة رئيسية لهذه التحركات.

من الناحية الاقتصادية، يُنظر إلى أي تعطيل شامل للملاحة من وإلى الموانئ الإيطالية المرتبطة بإسرائيل كعامل ضغط غير مسبوق على التجارة الإسرائيلية. فإيطاليا تمثل نقطة عبور محورية للسلع القادمة من شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية، والعكس.

وتشير تقديرات ملاحية إلى أن أي تعطيل طويل الأمد في جنوة أو ليفورنو قد يربك سلاسل الإمداد التي تعتمد عليها شركات إسرائيلية وأوروبية في قطاعات حيوية، من بينها التكنولوجيا، الكيماويات، والمنتجات الزراعية.

كما أن هذه الخطوة قد تلهم عمال موانئ آخرين في أوروبا، خصوصاً في إسبانيا التي شهدت بدورها تحركات نقابية تضامنية مع الفلسطينيين. في الأشهر الأخيرة، شاركت نقابات إسبانية في مبادرات رمزية لتعطيل تفريغ بعض السفن المرتبطة بشركات إسرائيلية، ومع تصاعد الغضب الشعبي تجاه الحرب على غزة، قد تتسع هذه التحركات لتشمل موانئ رئيسية في برشلونة وبلباو وفالنسيا.

ضغط شعبي ونقابي داخلي

يتزامن هذا التصعيد مع دخول إيطاليا مرحلة انتخابية إقليمية حساسة تمتد حتى نوفمبر، وسط تصاعد الضغط الشعبي على حكومة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني لاتخاذ موقف أكثر صرامة من إسرائيل. وتواجه الحكومة انتقادات من النقابات الكبرى، وعلى رأسها اتحاد العمال الإيطالي (CGIL) الذي أعلن استعداده لإضراب عام إذا تعرض أسطول المساعدات لأي هجوم.

كما تشير استطلاعات الرأي التي تابعها بقش إلى أن التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين قد ارتفع بشكل ملحوظ في الشارع الإيطالي منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر الماضي، مدفوعاً بالتغطيات الإعلامية المكثفة لمشاهد القصف والدمار، وتقارير المنظمات الحقوقية التي وصفت ما يجري بأنه “جرائم حرب” و”انتهاكات ممنهجة للقانون الدولي الإنساني”.

على الصعيد الأوروبي الأوسع، يتفاعل هذا الحراك العمالي مع موجة من الغضب الشعبي في عدد من الدول. فقد شهدت فرنسا وألمانيا وبريطانيا مظاهرات حاشدة في الأشهر الأخيرة تطالب بوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، فيما تواجه الحكومات الأوروبية ضغوطاً متزايدة من المجتمع المدني لإعادة النظر في علاقاتها التجارية والعسكرية مع تل أبيب.

وتتابع دوائر صنع القرار في بروكسل هذه التطورات بحذر، إذ تخشى أن تتحول التحركات العمالية إلى عامل ضغط مباشر على سياسات الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع تنامي الدعوات داخل البرلمان الأوروبي لإجراء مراجعة شاملة للاتفاقيات التجارية مع إسرائيل.

ويرى محللون أن استمرار التصعيد العمالي قد يخلق “واقعاً ميدانياً” يفرض على الحكومات التعامل مع المقاطعة كأمر واقع، حتى لو لم يصدر قرار رسمي بذلك.

تحوّل استراتيجي في أدوات الضغط

لا يقتصر الزخم الحالي على البعد الاقتصادي أو السياسي فحسب، بل يمتد إلى البعد الأخلاقي–الإنساني، حيث يُنظر إلى تحركات عمال الموانئ كجزء من موجة تضامن عالمية غير مسبوقة مع سكان غزة المحاصرين. هذه التحركات تستند إلى قناعة متزايدة في الشارع الأوروبي بأن الصمت أمام ما تصفه تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بأنه “إبادة جماعية” لم يعد مقبولاً.

ويرى مراقبون أن هذه الموجة قد تمثل نقطة تحول في طريقة تعامل الرأي العام الأوروبي مع الصراع، إذ لم تعد حملات المقاطعة محصورة بالنخب الأكاديمية أو منظمات المجتمع المدني، بل باتت تجد امتداداً في قطاعات عمالية استراتيجية قادرة على التأثير الملموس في التجارة والاقتصاد.

في المحصلة، فإن تحركات عمال الموانئ الإيطاليين لا يمكن قراءتها كمجرد احتجاجات عابرة، بل كجزء من تحوّل أوسع في أدوات الضغط السياسي والاقتصادي في أوروبا تجاه إسرائيل. هذا التحول يتقاطع مع حالة السخط الشعبي تجاه الحرب، ومع رغبة متزايدة في تفعيل أدوات المقاطعة الاقتصادية كما حدث في تجارب تاريخية سابقة ضد أنظمة عنصرية.

وإذا ما تطورت الأمور إلى حظر شامل على التجارة مع إسرائيل من موانئ أوروبية عدة، فإن تداعياته لن تقتصر على التجارة فحسب، بل قد تمتد إلى قلب العلاقات السياسية بين أوروبا وتل أبيب، لتفتح فصلاً جديداً في التوازنات الإقليمية والدولية، وسط حرب مستمرة في غزة تعيد تشكيل المزاج العالمي تجاه العدالة والقانون الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش