
تقارير | بقش
عندما قررت صنعاء، رداً على العدوان الإسرائيلي على غزة، فرض معادلة جديدة في البحر الأحمر عبر استهداف السفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي، سارعت الدوائر الغربية، كما أشار الصحفي مالكوم كيون في تحليله بموقع “UnHerd” البريطاني، إلى اعتبارها جُرأة غير مسبوقة ودليلاً على انحسار النفوذ الأمريكي، فكيف لقوة عظمى أن تسمح بتحدي هيمنتها على أحد أهم الممرات الملاحية في العالم؟ الأصوات المنتقدة لإدارة بايدن آنذاك عزت الأمر إلى “ضعف” و “مهادنة”، متخيلة أن القوة الأمريكية قادرة على سحق هذا التحدي بلمح البصر لو أرادت.
لكن الواقع، كما يكشفه تحليل المرصد بقش الاقتصادي عبر التتبع الدقيق للأحداث وتكاليفها، يرسم صورة مختلفة تماماً، فلم يكن الأمر نقصاً في الإرادة بقدر ما كان انكشافاً صادماً لحدود القوة وتكاليفها الباهظة.
واشنطن تترنح: من “حارس الرخاء” إلى “استسلام رف رايدر”
لم تتردد إدارة بايدن في الرد على الحوثيين، وأطلقت عمليتين عسكريتين: الأولى، “حارس الرخاء”، محاولة لحشد تحالف دولي لتأمين الملاحة، لكن هذا التحالف سرعان ما تبخر، ليتحول إلى إحراج دبلوماسي وعسكري، بينما استمرت الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية في شق طريقها نحو أهدافها، ثم جاءت “بوسيدون آرتشر” في يناير 2024، بضربات جوية أمريكية-بريطانية مكثفة. النتيجة؟ فشل ذريع آخر في ردع قوات صنعاء أو فتح البحر الأحمر.
ومع وصول إدارة ترامب (حسب السيناريو الذي طرحه كيون)، تغيرت اللهجة والأسلوب، ولكن ليس النتيجة. أُطلقت عملية “راف رايدر” في مارس 2025، كتصعيد هائل، وعلى مدى ستة أسابيع، شهدت سماء اليمن قصفاً أمريكياً لم يسبق له مثيل، شاركت فيه حتى قاذفات الشبح B-2 الشديدة الندرة والتكلفة، والتي انطلقت من قواعد بعيدة مثل دييغو غارسيا، إلى جانب طائرات حاملات الطائرات. كان الهدف هو إخضاع اليمن بالقوة المطلقة.
لكن بعد ستة أسابيع، أعلن ترامب “الانتصار”، وتم التوصل إلى وقف إطلاق نار بوساطة عمانية. لكن “الاستسلام” المزعوم لم يكن يمنياً، فمقابل وقف أمريكا لقصفها، تعهدت القوات اليمنية فقط بعدم استهداف السفن الأمريكية، أما الحصار على السفن المتجهة لإسرائيل، واستهداف إسرائيل نفسها، فظل قائماً وباعتراف أمريكي ضمني.
لقد اشترت أمريكا سلامة سفنها بالتخلي عن الهدف المعلن للحرب بأكملها، في خطوة تمثل اعترافاً بالعجز أكثر منها انتصاراً.

فاتورة الفشل: الأرقام تتحدث
إن السرد الذي يركز على “الإرادة السياسية” يتجاهل التكاليف المادية والعسكرية الهائلة التي تكبدتها الولايات المتحدة، والتي يرصدها بقش الاقتصادي كالتالي:
1- استنزاف الأسلحة الباهظة: اضطرت البحرية الأمريكية إلى إطلاق مئات الصواريخ الاعتراضية والدفاعية (مثل SM-2 و SM-6) وصواريخ الهجوم الأرضي (Tomahawk)، تكلفة الصاروخ الواحد تتراوح بين مليون و 4 ملايين دولار. وفقاً للبيانات التي جمعها وحللها مرصد بقش، فإن تكلفة الذخائر وحدها التي أُطلقت خلال هذه العمليات تجاوزت بسهولة حاجز المليار ونصف المليار دولار.
2- خسائر الطائرات المسيرة: اعترفت القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) مراراً بفقدان طائرات مسيرة متطورة من طراز MQ-9 Reaper، ويقدر متابعون خسارة ما لا يقل عن 6 إلى 8 طائرات من هذا الطراز، بتكلفة إجمالية تتراوح بين 180 و 240 مليون دولار (حيث تبلغ تكلفة الطائرة الواحدة حوالي 30 مليون دولار)، خلال شهر مارس 2025 فقط، وهذه الطائرات حيوية لجمع المعلومات الاستخباراتية وتحديد الأهداف، وفقدانها يعمي حملة القصف.
3- تكاليف التشغيل الضخمة: إن إبقاء مجموعات حاملات الطائرات (التي استخدمت أمريكا نصف قوتها العاملة الفعلية في هذه العملية) في حالة تأهب قتالي، وتشغيل قاذفات الشبح B-2 (بتكلفة ساعة طيران فلكية)، ونشر السفن الحربية، يمثل تكلفة تشغيلية يومية تقدر بملايين الدولارات، ويضع “مالكوم” التكلفة التشغيلية الإجمالية لهذه الحملات في حدود تتجاوز 2 مليار دولار.
4- التكاليف غير المباشرة والسمعة: الفشل في تأمين البحر الأحمر، أحد أهم شرايين التجارة العالمية، كلف الاقتصاد العالمي مئات المليارات بسبب ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين وتغيير مسارات السفن، لكن الأهم بالنسبة لأمريكا، هو التكلفة الاستراتيجية الهائلة المتمثلة في تآكل هيبتها كضامن لأمن الممرات البحرية، وهو ما لا يمكن تقديره بثمن.
هيكل عظمي في الخزانة: انكشاف الضعف العسكري الأمريكي
يشير تحليل “مالكوم كيون”، إلى أن المشكلة أعمق من مجرد تكاليف مالية، فقد كشفت المواجهة في اليمن عن ضعف هيكلي في الآلة العسكرية الأمريكية، والذي يمكن تلخيصه في:
- وهم حاملات الطائرات: من بين 11 حاملة طائرات، لا يتجاوز العدد الجاهز للعمل فعلياً 3 أو 4 حاملات في أي وقت، بسبب الصيانة ونقص الأطقم والأساطيل المرافقة.
- قاذفات الشبح.. كنز متهالك: من بين 20 قاذفة B-2، بالكاد تصل 6 أو 7 طائرات إلى حالة “القدرة الكاملة على أداء المهام”، بسبب تقادمها وصعوبة صيانتها واعتمادها على “أكل لحمها” (استخدام طائرات شبحية أخرى كقطع غيار).
- الأسلحة “الذكية” .. نادرة وغالية: تعتمد أمريكا على صواريخ المواجهة (Standoff) مثل JASSM (بسعر مليون دولار للصاروخ) لتجنب الدفاعات الجوية. لكن مخزونها محدود وينفد بسرعة في أي صراع حقيقي، وقدرتها على الإنتاج والاستبدال ضعيفة، وتعتمد على مكونات نادرة (مثل المعادن) تستوردها من منافستها الاستراتيجية، الصين.
- عدم القدرة على تحمل الخسائر: الجيش الأمريكي لم يعد قادراً على استبدال الطائرات والسفن والطيارين الذين يُفقدون، هذا ليس جبناً، بل هو عجز صناعي ولوجستي، نتيجة تآكل القاعدة الصناعية العسكرية وتضاؤل الإرث الضخم للحرب الباردة.
ترامب يعلن وقف قصف اليمن ويلمح لـ”إعلان كبير” قبيل جولة في الشرق الأوسط
نهاية عصر الهيمنة الجوية؟
كانت الحرب الجوية هي الحل السحري لأمريكا – سريعة، “نظيفة”، وبأقل خسائر بشرية، لكن اليمن أثبت أن هذا النموذج قد ولى، فلم تستطع أمريكا فرض سيادة جوية كاملة، واضطرت حتى طائراتها الشبحية (F-35) للمناورة هرباً من الصواريخ اليمنية (حسب تقارير مسربة لجهات مثل نيويورك تايمز)، وتكبدت خسائر فادحة في الطائرات المسيرة.
إذا كانت هذه هي النتيجة ضد اليمن، فماذا سيكون الحال ضد قوة أكبر مثل إيران، بشبكة دفاعها الجوي الأكثف ومساحتها الشاسعة ومنشآتها المحصنة بعمق؟، أو خصم عملاق مثل الجيش الصيني الذي يبدو بأنه يخفي في جعبته الكثير من المفاجآت العسكرية التي ستغير موازين القوة.
إن ما حدث في البحر الأحمر ليس مجرد هزيمة تكتيكية لواشنطن، بل هو مؤشر استراتيجي مدوٍ، إنه يثبت أن القوة العسكرية الأمريكية، رغم ضخامتها الظاهرية، تعاني من هشاشة عميقة، وأن نموذجها الحربي المعتمد على التفوق الجوي الباهظ لم يعد فعالاً أمام التحديات غير المتكافئة والدفاعات الجوية المتطورة والأقل تكلفة.
لقد نجحت اليمن في كشف “النمر الورقي” الأمريكي، وأجبرته على الاعتراف الضمني بأن عصر الهيمنة المطلقة قد ولى، وأن العالم يدخل مرحلة جديدة، تُكتب فصولها ببطء، ثم فجأة، تماماً كما وصف همنغواي الإفلاس.