تقارير
أخر الأخبار

تل أبيب تموّل المؤثرين بـ7 آلاف دولار للمنشور الواحد… ماكينة دعائية تسعى لفرض سرديتها العالمية بأي ثمن

تقارير | بقش

في خضم حرب الإبادة الدائرة على غزة وتراجع صورتها في الرأي العام الدولي، تكشف إسرائيل عن وجهٍ آخر لمعركتها: معركة السيطرة على السردية. فبعيداً عن ساحات القتال، تدير تل أبيب حملة إعلامية رقمية ضخمة وممولة بسخاء، هدفها الأساسي تلميع صورتها وتوجيه الرأي العام الغربي، خصوصاً الأمريكي، نحو روايتها الرسمية للأحداث.

وثائق رسمية لم يُكشف عنها سابقاً أظهرت أن المؤثرين المشاركين في هذه الحملة الرقمية التي ترعاها وزارة الخارجية الإسرائيلية يتقاضون مبالغ تصل وفق اطلاع بقش إلى 7,372 دولاراً عن كل منشور على منصات مثل «تيك توك» و«إنستغرام».

هذه المبالغ ليست سوى جزء من شبكة متكاملة تم تصميمها بعناية، تُدار بعقود رسمية، وتُموَّل من المال العام الإسرائيلي في وقت يتم فيه تقليص موازنات التعليم.

شبكة إعلامية موازية لتشكيل الوعي

في اجتماع خاص عُقد يوم الجمعة الماضي لمناقشة «تسخير الطاقة الإعلامية المؤيدة لإسرائيل»، لم يُخفِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الهدف من هذه الشبكة، قائلاً: «علينا أن نقاوم… المؤثرون لدينا، هم مهمون للغاية».

هذا التصريح جاء متزامناً مع وثائق مقدمة بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب في الولايات المتحدة، تكشف تفاصيل الحملة التي تقودها شركة «بريدج بارتنرز»، ومقرها حي الكابيتول هيل في واشنطن، لصالح وزارة الخارجية الإسرائيلية.

تشير الفواتير إلى أن «بريدج بارتنرز» أرسلت طلبات مالية بقيمة إجمالية بلغت 900 ألف دولار إلى مجموعة «هافاس» الإعلامية الألمانية، مقابل إدارة حملة مؤثرين تمتد من يونيو إلى نوفمبر 2025، تضم ما بين 14 و18 مؤثراً مكلفين بإنتاج محتوى موجه للرأي العام الغربي.

وبعد خصم الرسوم الإدارية والقانونية والمصرفية، تبقى 552,946 دولاراً مخصصة مباشرة لهؤلاء المؤثرين، مقابل 75 إلى 90 منشوراً رقمياً، أي ما بين 6,143 و7,372 دولاراً للمنشور الواحد حسب قراءة بقش.

هذا التمويل السخي ليس مجرد نشاط دعائي عابر، بل جزء من بناء شبكة إعلامية موازية خارج الأطر التقليدية، تستهدف إعادة إنتاج الرواية الإسرائيلية في فضاءات رقمية يصعب ضبطها بالأساليب الدبلوماسية الكلاسيكية.

غموض متعمد… وهوية مجهولة

رغم وضوح الأرقام، تظل هوية المؤثرين المشاركين في الحملة طي الكتمان. شركة «هافاس»، التي تشرف على التنفيذ، رفضت التعليق على أسئلة حول من هؤلاء المؤثرين أو المبالغ التي حصل عليها كل منهم. هذا الصمت يعزز الانطباع بأن الحملة تعمل بمنطق العمليات السرية، حيث يتم ضخ الأموال الحكومية في مسارات إعلامية غير خاضعة للرقابة العامة أو البرلمانية.

الشركة المنفذة، «بريدج بارتنرز»، أسسها يائير ليفي وأوري شتاينبرغ، ويملك كل منهما نصف الأسهم. وقد استعانت الشركة بخدمات ناطق سابق باسم الجيش الإسرائيلي، نداف شتروشلر، وبشركة محاماة أمريكية سبق أن مثلت شركات تكنولوجية إسرائيلية مثيرة للجدل مثل «إن إس أو» المعروفة بتطوير برامج تجسس.

الحملة تحمل اسم «مشروع إستير»، وهو اسم يرتبط أيضاً بحملة أمريكية تقودها «مؤسسة التراث» لمحاربة معاداة السامية عبر وصم منتقدي إسرائيل بأنهم جزء من شبكات إرهابية. هذا التقاطع في الأسماء والأهداف يعزز الانطباع بوجود بنية إعلامية عالمية منسقة تعمل لخدمة السردية الإسرائيلية على جبهات متعددة.

تحويل التعليم إلى وقود دعائي

لم تكتفِ الحكومة الإسرائيلية بتمويل هذه الحملة من ميزانية وزارة الخارجية، بل قررت اقتطاع 150 مليون شيكل (نحو 38.7 مليون دولار) من ميزانية التعليم العالي وتحويلها إلى ميزانية الإعلام والدبلوماسية العامة لعام 2025. وفقاً للخطة التي قدمها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ستُخصص 90 مليون شيكل للحملات الإعلامية و60 مليوناً لجلب وفود دولية.

هذا القرار يأتي فوق تخصيصات سابقة بقيمة 545 مليون شيكل للدبلوماسية العامة ضمن اتفاقيات ائتلاف الليكود وحلفائه. ورغم تقليص الميزانية لاحقاً إلى 520 مليون شيكل بسبب إجراءات تقشف حكومية، فإن الزيادة الجديدة تؤكد أن الحكومة تعتبر معركة الرأي العام أولوية تموَّل حتى على حساب الجامعات والبحث العلمي.

وكان من المفترض أن تزداد ميزانية التعليم العالي بنفس المبلغ في إطار خطة لرفع مخصصات القطاعات الأكاديمية بنسبة 0.3%، لكن هذه الزيادة ألغيت بالكامل لصالح تمويل الحملات الدعائية.

ماكينة دعائية لا تهدأ

هذه الوقائع تكشف عن استراتيجية متكاملة: إسرائيل لا تعتمد على الدبلوماسية الرسمية أو البيانات الحكومية، بل تبني ماكينة دعائية تمتد من المؤثرين الأفراد إلى شركات العلاقات العامة، ومن تمويل مباشر لمنشورات على «تيك توك» إلى تحويل مخصصات التعليم إلى إعلام موجّه.

في ظل تآكل صورتها الدولية بسبب الحرب على غزة والانتقادات الحقوقية، تحاول إسرائيل تعويض الخسائر السياسية عبر شراء السردية الإعلامية. فالمؤثرون -الذين يقدمون أنفسهم كأفراد مستقلين- يضفون على الرسائل الإسرائيلية طابعاً «شعبياً» و«محايداً»، بينما هم في الواقع جزء من حملة رسمية مدفوعة.

تدرك تل أبيب أن المعارك الحديثة لا تُحسم في ميادين القتال فقط، بل في ساحة الرأي العام العالمي، حيث تنتشر المعلومات بسرعة غير مسبوقة. لذلك تسعى إلى فرض روايتها عبر كل وسيلة متاحة، حتى لو كان الثمن اقتطاع أموال من التعليم العالي أو تمويل منشورات مؤثرة بمبالغ خيالية.

هذه التحركات تطرح أسئلة جوهرية: إلى أي مدى يمكن لحملات ممولة بهذا الشكل أن تغيّر فعلاً نظرة العالم للصراع؟ وهل ينجح الاستثمار المالي المكثف في التغلب على واقعٍ يومي تنقله الصور الحية من غزة إلى شاشات العالم؟

ما يبدو واضحاً هو أن إسرائيل تخوض حرباً متزامنة: حرب عسكرية على الأرض، وحرب سرديات على الشاشات، وأنها مستعدة لتسخير مواردها الاقتصادية والسياسية لخوض هذه المعركة حتى النهاية.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش