
الاقتصاد العالمي | بقش
تلوح في الأفق إشارة تهدئة نادرة بين الولايات المتحدة والصين، مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته خفض الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية، بالتوازي مع استعداد واشنطن لبحث ملف حسّاس يتعلق بتقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي تنتجها شركة “إنفيديا”.
تأتي هذه التصريحات قبل لقاء مرتقب يوم غد الخميس بين ترامب ونظيره الصيني تشي جين بينغ، في محاولة لإعادة ضبط العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم بعد سنوات من التصعيد التجاري والعقوبات التقنية المتبادلة.
وحسب محللين اقتصاديين، فإن هذا التقارب المحتمل يمكن أن يؤدي إلى تهدئة الأسواق العالمية، ويؤثر على أسعار الذهب التي ارتفعت مؤخراً مدفوعة بتوترات الجغرافيا السياسية وارتفاع الطلب على الملاذات الآمنة. فكل بادرة تهدئة بين واشنطن وبكين عادة ما تُترجم إلى تراجع في حدة القلق العالمي، ولو مؤقتاً.
خفض الرسوم الجمركية: خطوة تجارية أم ورقة تفاوض؟
وفق متابعات “بقش”، صرّح ترامب أثناء رحلته إلى كوريا الجنوبية على متن طائرة “إير فورس وان” أنه يتوقع خفض الرسوم المفروضة على الصين في إطار معالجة أزمة الفنتانيل، قائلاً: “أتوقع خفض تلك الرسوم لأنني أعتقد أنهم سيساعدوننا في مسألة الفنتانيل”.
وتشير تقارير إلى أن الإدارة الأمريكية تدرس خفض التعرفة من 20% إلى 10% على الواردات الصينية، وهو ما قد يمثل انفراجة رمزية في الحرب التجارية الممتدة منذ عام 2018.
ويبدو أن ترامب يستخدم الأزمة الصحية الناتجة عن تهريب الفنتانيل -المادة المخدرة التي أغرقت الأسواق الأمريكية- كمدخل لصفقة أوسع نطاقاً، تشمل التجارة، والرقائق الإلكترونية، وحتى ملفات الطاقة والمعادن.
وبينما رحبت الأسواق بهذه التصريحات، يرى مراقبون أن الخطوة تحمل بعداً سياسياً مزدوجاً: فهي محاولة لاسترضاء الصين قبل اللقاء المرتقب، وفي الوقت ذاته توجيه رسالة داخلية للناخبين الأمريكيين بأن ترامب يسعى لتخفيف الضغوط على الاقتصاد المحلي من خلال تقليص الرسوم التي رفعت الأسعار على المستهلكين.
رقائق “إنفيديا” في قلب الدبلوماسية الجديدة
الملف الأكثر حساسية في هذه المحادثات هو شريحة الذكاء الاصطناعي “بلاكويل” التي تنتجها شركة “إنفيديا”، والتي تُعدّ من أحدث التقنيات المتاحة في العالم.
قال ترامب: “سنتحدث عن بلاكويل، إنها شريحة خارقة تتقدم بسنوات على أي منتج آخر”، في إشارة إلى احتمال السماح للصين بالحصول عليها ضمن صفقة تجارية أوسع.
الخطوة تُعتبر تنازلاً كبيراً، إذ أن واشنطن كانت قد حظرت تصدير هذه الشريحة للصين بذريعة الأمن القومي. غير أن البراغماتية التجارية التي تميز نهج ترامب قد تدفعه إلى إعادة تقييم القرار مقابل مكاسب اقتصادية.
وفي المقابل، تُظهر بكين اهتماماً كبيراً بالحصول على التكنولوجيا الأمريكية لتسريع تطوير صناعاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً بعد أن تراجعت حصّة “إنفيديا” في السوق الصينية إلى الصفر إثر القيود المزدوجة من الجانبين.
وقد حققت أسهم “إنفيديا” ارتفاعاً بنسبة 8.5% في التداولات الآسيوية عقب تصريحات ترامب وفق اطلاع بقش، ما يعكس التفاؤل في الأسواق بإمكانية إعادة فتح القنوات التكنولوجية بين القوتين.
اتفاق تجاري شامل يلوح في الأفق
وتزامناً مع هذه التطورات، أوردت وول ستريت جورنال في تقرير طالعه بقش أنّ مسؤولين من واشنطن وبكين توصلوا إلى اتفاق إطاري واسع في ماليزيا، يمهد الطريق لتوقيع اتفاق تجاري شامل خلال لقاء ترامب وتشي في سيول.
ويتضمن الاتفاق المتوقع خفض الرسوم الجمركية على الفنتانيل إلى النصف، وتأجيل القيود الصينية على صادرات المعادن النادرة لمدة عام، إضافة إلى صفقة جزئية بشأن “تيك توك” تقضي ببيع عملياته داخل الولايات المتحدة إلى تحالف محلي.
كما يُتوقع أن تشمل المباحثات تعليق قيود أمريكية على صادرات البرمجيات، وخفض رسوم الشحن المتبادلة، وإقرار آلية للتعاون في مكافحة تهريب المواد الكيميائية المرتبطة بصناعة المخدرات.
ورغم حساسية الملفات، فإن الطرفين تجنّبا التطرق المباشر إلى قضية تايوان، وهو مؤشر على الرغبة في حصر النقاش ضمن المسار الاقتصادي والتجاري، بعيداً عن الملفات الأمنية التي تثير انقساماً حاداً.
انعكاسات اقتصادية: من الذهب إلى سلاسل الإمداد
الأسواق العالمية تتعامل مع أي بوادر تهدئة بين واشنطن وبكين كصمام أمان مؤقت.
فتراجع احتمالات التصعيد التجاري يُخفف الطلب على الملاذات الآمنة، وعلى رأسها الذهب، الذي ارتفع إلى مستويات قياسية هذا الشهر بفعل مخاوف التوتر الجيوسياسي في الشرق الأوسط وآسيا.
وإذا ما أُعلن الاتفاق رسمياً، فمن المرجح أن تتراجع أسعار الذهب بشكل محدود نتيجة تحسن معنويات المستثمرين وعودة السيولة نحو الأصول عالية المخاطر، مثل الأسهم والتكنولوجيا.
لكن محللين في بورصة سنغافورة تابع بقش تقديراتهم يرون أن هذا التأثير سيكون قصير الأجل، لأن جذور الخلاف بين القوتين ما زالت قائمة، وأن “التقارب التجاري لا يعني نهاية التنافس الاستراتيجي”.
في المقابل، قد تؤدي عودة تدفقات التجارة والتكنولوجيا إلى خفض تكاليف الإنتاج العالمي، وتحسين أداء سلاسل الإمداد المتضررة منذ سنوات من القيود الجمركية وحرب الرقائق.
من أزمة الفنتانيل إلى رقائق “بلاكويل”، يبدو أن الاقتصاد والتكنولوجيا أصبحا لغة الدبلوماسية الجديدة بين واشنطن وبكين. اللقاء المرتقب بين ترامب وتشي جين بينغ قد يشكل منعطفاً في مسار الحرب التجارية التي أثقلت الاقتصاد العالمي، ولو مؤقتاً.
وفي حين تنتظر الأسواق إعلان التفاصيل، يبقى المؤكد أن أي تهدئة بين القوتين قادرة على كبح التوتر المالي العالمي، وتحريك موجة تفاؤل جديدة في أسواق الطاقة والمعادن. لكن التاريخ يعلم أن الهدوء بين واشنطن وبكين لا يدوم طويلاً — فهو في الغالب مجرد هدنة بين جولتين من التنافس على قيادة القرن الحادي والعشرين.


