الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

حرب الرقائق الكبرى.. معركة القرن بين واشنطن و بكين للسيطرة على عصب الاقتصاد الرقمي

الاقتصاد العالمي | بقش

لم تعد الرقائق الإلكترونية مجرد مكونات صغيرة داخل الأجهزة، بل تحولت إلى عصب الاقتصاد الرقمي العالمي. هذه الشرائح الدقيقة باتت تحدد مسار التطور التكنولوجي، من الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة السحابية والسيارات الكهربائية. ويرى خبراء الاقتصاد أن أشباه الموصلات أصبحت مكافئة للنفط في القرن العشرين، إذ لا يمكن لأي صناعة حديثة أن تعمل بكفاءة من دونها.

هذا الدور المحوري جعل الرقائق تتحول إلى ساحة صراع جيوسياسي عالمي. الولايات المتحدة بقيادة الرئيس السابق جو بايدن ثم خلفه دونالد ترامب تبنّت سياسة واضحة لتقييد وصول الصين إلى الشرائح الأكثر تقدماً. في المقابل، تكثف بكين جهودها لبناء صناعة محلية قادرة على المنافسة، وسط سباق محتدم يشبه “حرب باردة تكنولوجية” جديدة.

وبحسب تقرير بلومبيرغ رصده “بقش”، فإن إدارة ترامب ذهبت أبعد من القيود، حيث استحوذت الحكومة على حصة في “إنتل” الأمريكية بهدف تحويلها إلى “بطل قومي”، فيما دفعت شركات مثل “إنفيديا” استثمارات مليارية لتعزيز تفوقها في الذكاء الاصطناعي.

تكمن أهمية الرقائق في قدرتها على معالجة الكم الهائل من البيانات التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي. تتنوع هذه الشرائح بين رقائق الذاكرة البسيطة نسبياً ورقائق المنطق المعقدة والمكلفة، التي تمثل العقل المحرك للتطبيقات والبرمجيات. ومن أبرز الأمثلة على أهميتها، معالج الذكاء الاصطناعي H100 من “إنفيديا”، الذي أصبح الحصول عليه قضية أمن قومي للشركات والحكومات على حد سواء.

حتى الأجهزة البسيطة لم تعد تعمل من دون الرقائق. فالسيارات الحديثة تحتوي على مئات الشرائح التي تتحكم في كل شيء من نظام الكبح إلى شاشات العرض. كما أن أي جهاز يعمل بالبطاريات يعتمد عليها لتنظيم الطاقة.

هذا الاعتماد الواسع جعل الحكومات تدرك أن السيطرة على سلاسل توريد الرقائق تعني السيطرة على المستقبل الرقمي. لذلك، لا يُنظر إلى هذه الصناعة فقط كمسألة اقتصادية، بل كقضية استراتيجية تمس الأمن القومي ومكانة الدول في النظام العالمي الجديد.

واشنطن تحاول تقييد الصين.. وجائحة كورونا كشفت هشاشة التوريد

كشفت جائحة كورونا هشاشة سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات. تعطّل الإنتاج في آسيا أدى إلى نقص عالمي، عطّل مصانع السيارات وأجهزة الهواتف وأجهزة الكمبيوتر.

ورغم أن الولايات المتحدة طورت معظم التقنيات الأساسية، إلا أن التصنيع بات يتركز في شرق آسيا وفق متابعات بقش. تايوان عبر “تي إس إم سي” وكوريا الجنوبية عبر “سامسونغ” استحوذتا على الحصة الأكبر من السوق، فيما بقيت أمريكا تعتمد بشكل خطير على الخارج.

في المقابل، الصين، التي تمثل أكبر سوق للمكونات الإلكترونية، سعت إلى تطوير صناعة محلية. غير أن العقوبات والقيود الأمريكية جعلت بكين تواجه صعوبة في الحصول على المعدات والبرمجيات المتقدمة، ما خلق سباقاً تكنولوجياً محفوفاً بالمخاطر.

في عهد بايدن، أقرت واشنطن خطة لدعم الصناعة المحلية عبر تمويل فيدرالي ضخم لتقليل الاعتماد على آسيا. لكن إدارة ترامب فضّلت مساراً آخر، عبر الرسوم الجمركية والقيود الصارمة على الشركات الصينية، ومن بينها إدراج “هواوي” و”SMIC” على القائمة السوداء.

الخطوة الأبرز كانت إعلان ترامب الاستحواذ على حصة في “إنتل” لتعزيز قدرتها التنافسية مع عمالقة آسيا. هذه الخطوة، إلى جانب استثمارات “إنفيديا”، عكست إدراك واشنطن أن المنافسة مع الصين لن تُحسم إلا بوجود عملاق أمريكي قادر على الإنتاج المتقدم.

ترافق ذلك مع ضغط كبير على الحلفاء مثل تايوان واليابان وأوروبا، لقطع أو تقييد تعاونهم مع بكين في مجال الرقائق. وهو ما أدى إلى إقصاء الصين من بعض سلاسل التوريد العالمية، في محاولة لعزلها تكنولوجياً.

بكين ومحاولة كسر الطوق

لم تقف الصين مكتوفة الأيدي. ففي السنوات الأخيرة، استثمرت مئات المليارات لتطوير صناعة محلية للرقائق، رغم العقبات التي فرضتها القيود الأمريكية.

كشفت “هواوي” عام 2023 عن هاتف يعمل بمعالج بتقنية 7 نانومتر، في خطوة اعتُبرت تحدياً مباشراً للقيود. كما وضعت الحكومة خطة ثلاثية السنوات لتطوير شرائح ذكاء اصطناعي ومسرّعات منافسة لمنتجات “إنفيديا”.

ورغم أن المنتجات الصينية لا تزال متأخرة نسبياً عن نظيراتها الأمريكية والتايوانية، إلا أن بكين أحرزت تقدماً لافتاً. فشركات ناشئة مثل “ديب سيك” طورت نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على منافسة منتجات “أوبن إيه آي” و”ميتا”، بكلفة أقل بكثير.

تصنيع الرقائق بات صناعة احتكارية تقريباً. إذ يتطلب إنشاء مصنع حديث استثمارات تتجاوز 20 مليار دولار وفترة بناء تمتد لسنوات.

هذا جعل الإنتاج المتقدم محصوراً بثلاث شركات: “تي إس إم سي” في تايوان، “سامسونغ” في كوريا الجنوبية، و”إنتل” في الولايات المتحدة. فيما تبقى بقية الشركات مثل “تكساس إنسترومنتس” و”إس تي مايكروإلكترونيكس” تركز على الشرائح الأقل تعقيداً مثل الرقائق التماثلية.

تركّز القدرة التصنيعية في أماكن محدودة جعلها نقطة ضعف استراتيجية، خصوصاً أن تايوان تمثل بؤرة توتر جيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة.

الخطر الأكبر.. تايوان

لم تعد الحرب التكنولوجية بين واشنطن وبكين وحدها، فالاتحاد الأوروبي حسب متابعة بقش أطلق خطة بـ46 مليار دولار لرفع حصته من الإنتاج العالمي إلى 20% بحلول 2030.

اليابان خصصت أكثر من 25 مليار دولار لبناء مصانع “تي إس إم سي” و”رابيدوس”، في محاولة للعودة إلى واجهة الصناعة. أما كوريا الجنوبية، فهي ماضية في تعزيز هيمنة “سامسونغ” و”إس كيه هاينكس” على سوق رقائق الذاكرة.

الهند بدورها أعلنت مشاريع بقيمة 15 مليار دولار، وفق اطلاع بقش، فيما تدرس السعودية دخول القطاع عبر صندوق الاستثمارات العامة، في إطار استراتيجيتها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط.

يبقى أكبر تهديد لصناعة الرقائق العالمية هو احتمالية اندلاع نزاع عسكري حول تايوان. الجزيرة التي تبعد 160 كيلومتراً فقط عن الصين تحتضن شركة “تي إس إم سي”، عملاق الرقائق الأول عالمياً.

اندلاع الحرب قد يؤدي إلى عزل الشركة عن عملائها العالميين، ما يعني شلّ قطاعات كاملة من الاقتصاد الرقمي، من الهواتف الذكية إلى مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.

ولأن بناء بديل عن “تي إس إم سي” يتطلب سنوات واستثمارات هائلة، فإن أي اضطراب في تايوان قد يطلق شرارة أزمة عالمية غير مسبوقة.

يتضح أن الرقائق الإلكترونية لم تعد مجرد صناعة تقنية، بل أداة صراع جيوسياسي عالمي. واشنطن تسعى لحماية تفوقها ومنع الصين من اللحاق بها، بينما بكين تضخ موارد هائلة لكسر الطوق.

هذه الحرب مرشحة للاستمرار لسنوات مقبلة، مع تشابك الاقتصاد بالتكنولوجيا والسياسة. المعركة لم تعد فقط حول من يصنع الشرائح الأكثر تقدماً، بل حول من يملك مفاتيح الاقتصاد الرقمي بأكمله. وفي ظل هشاشة التوازن في تايوان وضغط الأسواق العالمية، تبدو هذه الحرب وكأنها ستحدد شكل النظام الدولي في القرن الحادي والعشرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش