“حرب الغذاء” مع أمريكا.. كيف غيرت الصين موازين التجارة الزراعية في العالم؟

الاقتصاد العالمي | بقش
لم تعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين محصورة في التكنولوجيا والمعادن الدقيقة، بل انتقلت إلى مجال أكثر حساسية وأثراً على حياة الشعوب، وهو الغذاء والوقود الحيوي، وفقاً لتقرير جديد لوكالة “بلومبيرغ”.
فالجولة الأخيرة من النزاع بين أمريكا والصين هي “حرب غذاء” تُظهر نجاح الصين في تغيير موازين القوة في التجارة الزراعية العالمية، في حين تواجه إدارة ترامب ضغطاً داخلياً متزايداً من المزارعين الأمريكيين الذين خسروا أكبر سوق تصديرية لفول الصويا في العالم، وفق اطلاع “بقش” على التقرير.
بمعنى آخر، تجاوَزَ الصراع الرسوم الجمركية إلى سباق السيطرة على الأمن الغذائي والطاقة النظيفة، وهما القطاعان اللذان يمثلان مستقبل الاقتصاد العالمي في العقود القادمة. وقد نجحت الصين في إدارة هذه المواجهة بدهاء استراتيجي، مستفيدةً من أخطـاء واشنطن في السياسة الزراعية، ومتسلحةً بعلاقاتها التجارية المتينة مع أمريكا الجنوبية، في حين يجد المزارع الأمريكي نفسه اليوم في مأزق خسارة السوق الصينية وتراجع الأسعار وغياب الدعم الحكومي.
ملف الغذاء: الصين صاحبة اليد العليا
يشير تقرير بلومبيرغ إلى أن الصين تبدو الآن صاحبة اليد العليا في ملف الغذاء، بعد أن استبدلت فول الصويا الأمريكي بالبرازيل والأرجنتين، ورفعت وارداتها إلى مستويات قياسية في سبتمبر الماضي، وللمرة الأولى منذ قرابة 10 سنوات لم تشترِ الصين أي شحنة من المحصول الأمريكي الجديد الذي بلغت قيمته العام الماضي نحو 12.6 مليار دولار حسب قراءة بقش.
بهذه الخطوة، نجحت الصين في ما يشبه “انقلاباً استراتيجياً” على أحد أهم مصادر الضغط الأمريكي، حيث حوّلت ورقة فول الصويا، التي طالما استخدمتها واشنطن كورقة تفاوضية، إلى سلاحٍ مرتد على الولايات المتحدة نفسها.
وتصف بلومبيرغ المشهد في الريف الأمريكي بأنه “قاتم”، حيث تكدّست كميات هائلة من فول الصويا في المخازن، وهبطت الأسعار إلى أدنى مستوى منذ خمس سنوات، ويواجه آلاف المزارعين خطر الإفلاس مع غياب الدعم الفيدرالي بسبب الإغلاق الحكومي في واشنطن.
وتؤكد بيانات وزارة الزراعة الأمريكية أن العقود الآجلة لفول الصويا تراجعت بشكل حاد، مما يجعل الخسائر الاقتصادية تمتد إلى الولايات الزراعية الحرجة سياسياً مثل آيوا وإلينوي ومينيسوتا، وهي ولايات تمثل قاعدة انتخابية أساسية للرئيس ترامب.
القِدر الصيني الساخن يشغّل طائرة
في خطوة وُصفت بأنها رمزية أكثر من كونها فعّالة، هدد ترامب بوقف استيراد زيت الطهي من الصين، واتهم الأخيرة بأنها تتعمد إلحاق الأذى بالمزارعين الأمريكيين، لكن بلومبيرغ توضح أن الحديث يدور حول زيت الطهي المستعمل، أي النفايات الغذائية التي يُعاد تدويرها لإنتاج الوقود الحيوي ووقود الطائرات المستدام.
وتكمن المفارقة في أن “القِدر الصيني الساخن يمكن أن يُشغّل طائرة في المستقبل” حسب توصيف بلومبيرغ، في إشارةٍ إلى نجاح الصين في تحويل مخلفات الطعام إلى مصدر طاقة نظيف.
غير أن هذه التجارة تظل هامشية مقارنةً بحجم تجارة فول الصويا، مما يجعل تهديدات ترامب بلا تأثير جوهري في موازين الصراع.
صعود الصين في الوقود النظيف.. ومزارعو أمريكا ضحايا
بينما تترنح واشنطن تحت ضغط أزماتها الزراعية، تمضي بكين بخطى ثابتة نحو اقتصاد الطاقة المتجددة.
نيف جيد باترسون، المحللة في بلومبيرغ، تؤكد أن الصين تبني “منظومة وقود متجددة قادرة على امتصاص كل فائض الزيت المستخدم داخل البلاد”، مع توسّع مشاريع المعالجة الحيوية والهيدروكربونات النظيفة في عدد من المقاطعات الصناعية.
وحسب البيانات التي راجعها بقش من بلومبيرغ، سترتفع الطاقة الاستيعابية لتلك المنشآت بنسبة 25% العام المقبل، ما يعني أن الصين لن تحتاج إلى السوق الأمريكية لتصريف فائضها، بل قد تتحوّل إلى مصدّر عالمي رئيسي للوقود الحيوي خلال العقد القادم.
وفي هذه الأثناء، تتحول الحرب التجارية إلى عبء سياسي داخلي على إدارة ترامب، إذ يشعر المزارعون بأنهم الضحية الأولى للسياسات التصعيدية.
فتراجع الأسعار وتراكم الديون وتباطؤ صرف المساعدات كلها عوامل تُضعف الثقة في قدرة الحكومة الأمريكية على إنقاذ الموسم الزراعي، ما يُنذر بانقسام حاد داخل القاعدة الريفية التي كانت أحد أعمدة الدعم الجمهوري.
وتشير بلومبيرغ إلى أن غضب المزارعين الأمريكيين قد يتحول إلى أزمة انتخابية، خاصة إذا استمرت الصين في إحكام قبضتها على أسواق الغذاء والوقود دون أن تجد واشنطن وسيلة رد فعالة.
وتلخص بلومبيرغ المشهد بأن “حرب الغذاء” الجديدة لا رابح فيها، فالصين تكسب استقلالاً استراتيجياً في الغذاء والطاقة، بينما الولايات المتحدة تخسر ورقة ضغط كانت فاعلة، وبينهما تواجه الأسواق الزراعية العالمية اضطراباً في الأسعار وسلاسل الإمداد.
لكن الملاحظة الأهم هي أن هذه الجولة من النزاع تعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي العالمي، فبعد أن كانت التكنولوجيا هي الميدان الرئيسي للصراع، أصبح الغذاء والوقود هما القلب الجديد للهيمنة الاقتصادية، حيث تمزج الصين بين الابتكار الصناعي والسيادة الغذائية في مشروع وطني طويل المدى.
إعادة هيكلة سوق الغذاء
يبدو أن ما يحدث ليس مجرد أزمة تصدير مؤقتة، بل تحول هيكلي في سوق الغذاء العالمي وفق تحليل “بقش”، إذ لم تعد الصين مجرد مستورد عملاق، بل أصبحت لاعباً فاعلاً يعيد توزيع النفوذ الزراعي بين القارات.
ويواجه الاقتصاد الأمريكي حالياً اختباراً داخلياً صعباً، فالإغلاق الحكومي وتباطؤ الدعم الزراعي كَشَف هشاشة النموذج الأمريكي القائم على التصدير الزراعي المكثف، في ظل غياب رؤية بديلة لتوسيع الأسواق أو تحديث البنية الزراعية.
وإلى جانب الغذاء، تحولت الطاقة النظيفة إلى سلاح جيواقتصادي جديد، فقد نجحت الصين في دمج النفايات الغذائية ضمن منظومة الطاقة المستدامة، بشكل يجعلها تتفوق في قطاع استراتيجي تسعى إليه أوروبا والولايات المتحدة منذ سنوات، وذلك يمنح بكين ورقة قوة جديدة في موازين المناخ والاقتصاد العالمي.
وتُظهر ما وصفتها بلومبيرغ بـ”حرب الغذاء”، أنّ القوة في القرن الحادي والعشرين لم تعد تُقاس فقط بالأسلحة أو الرقائق الإلكترونية، بل بالقدرة على إطعام الشعوب وتشغيل الطائرات من مخلفات الطعام، وبينما تخوض واشنطن معركة فول الصويا الخاسرة، تمضي بكين نحو مرحلة جديدة من السيادة الزراعية والطاقية، تؤسس فيها لاقتصاد مكتفٍ بذاته، وتمنح العالم درساً في كيفية تحويل النفايات إلى نفوذ.