
الاقتصاد العالمي | بقش
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض ما وصفه بـ”حصار تام وكامل” يمنع جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات من دخول أو مغادرة الموانئ الفنزويلية، في خطوة تستهدف بشكل مباشر شريان الاقتصاد الفنزويلي ومصدر دخله الرئيسي، النفط.
القرار لم يمر بهدوء في أسواق الطاقة ولا في الأوساط السياسية والقانونية، بل فتح باباً واسعاً للتساؤلات حول تداعياته الاقتصادية وحدوده القانونية، واحتمالات انزلاقه إلى مواجهة عسكرية مفتوحة في منطقة الكاريبي.
ووفق اطلاع مرصد “بقش”، لم يكتفِ ترامب بتوسيع نطاق العقوبات، بل استخدم صراحة مصطلح “الحصار”، وهو توصيف يحمل دلالات قانونية وعسكرية ثقيلة.
ففي منشور على منصته “تروث سوشيال”، برّر ترامب القرار باتهام النظام الفنزويلي بـ”سرقة أصولنا” وبالضلوع في “الإرهاب وتهريب المخدرات والاتجار بالبشر”، معلناً تصنيف حكومة الرئيس نيكولاس مادورو “منظمة إرهابية أجنبية”، وهو توصيف غير مسبوق لدولة ذات سيادة.
لكن كيفية تنفيذ هذا الحصار ما تزال غامضة، فحتى الآن لم توضّح الإدارة الأمريكية الآلية العملية لمنع السفن من الدخول أو الخروج، ولا ما إذا كانت ستلجأ إلى اعتراضها بالقوة، كما حدث الأسبوع الماضي عندما احتجزت الولايات المتحدة ناقلة نفط خاضعة للعقوبات قبالة السواحل الفنزويلية.
غير أن المؤشرات الميدانية توحي باستعداد عسكري جدي، إذ نقلت واشنطن في الأشهر الأخيرة آلاف الجنود ونحو 12 سفينة حربية، من بينها حاملة طائرات، إلى منطقة الكاريبي حسب قراءة بقش تقريراً لرويترز.
ردود فعل فورية في أسواق النفط
لم تنتظر الأسواق طويلاً لتتفاعل مع القرار، فقد ارتفعت العقود الآجلة للخام الأمريكي بأكثر من 1% لتصل إلى 55.96 دولاراً للبرميل في التعاملات الآسيوية، بعد أن كانت أسعار التسوية عند 55.27 دولاراً، وهو أدنى مستوى لها منذ فبراير 2021.
ويعكس هذا الارتفاع حالة الترقب والقلق من احتمال تراجع الإمدادات الفنزويلية، حتى في ظل وفرة المعروض العالمي حالياً.
ويشير متعاملون في سوق النفط إلى أن الأسواق تسعّر المخاطر المستقبلية أكثر من الواقع الراهن. فالسوق، كما يقولون، “مزوّد على نحو جيد”، وهناك ملايين البراميل من النفط المخزّنة على متن ناقلات قبالة السواحل الصينية في انتظار التفريغ.
لكن استمرار الحصار قد يؤدي، وفق تقديراتهم، إلى فقدان ما يقرب من مليون برميل يومياً من الإمدادات، وهو كفيل بدفع الأسعار إلى مستويات أعلى.
في هذا السياق، يقدّر ديفيد جولدون، الدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية الأمريكية والمتخصص في شؤون الطاقة، أن تأثير فقدان الصادرات الفنزويلية قد يتراوح بين 5 و8 دولارات للبرميل، إذا لم تُعوض منظمة أوبك هذا النقص عبر زيادة طاقتها الإنتاجية.
لكنه يحذّر من أن التداعيات لن تكون نفطية فقط، بل اجتماعية وإنسانية أيضاً، متوقعاً “ارتفاعاً حاداً في التضخم وهجرة جماعية وفورية من فنزويلا إلى الدول المجاورة”.
“أسطول الظل” تحت المجهر
منذ فرض الولايات المتحدة عقوبات على قطاع الطاقة الفنزويلي عام 2019، طوّرت السوق آليات التفاف معقدة.
فقد لجأ المشترون إلى ما يُعرف بـ”أسطول الظل”، وهو شبكة من ناقلات تخفي مواقعها وتغيّر هوياتها الرقمية، وتستخدم أحياناً سفناً خاضعة للعقوبات نفسها لنقل النفط الفنزويلي، إلى جانب النفط الإيراني والروسي.
ووفق بيانات طالعها بقش من موقع “تانكر تراكرز”، كانت أكثر من 30 سفينة من أصل 80 سفينة في المياه الفنزويلية أو تقترب منها، خاضعة للعقوبات الأمريكية حتى الأسبوع الماضي، إلا أن تشديد الرقابة الأمريكية واحتجاز إحدى الناقلات دفع سفناً أخرى محملة بالنفط إلى البقاء داخل المياه الفنزويلية بدل المخاطرة بالمغادرة، ما أدى إلى انخفاض حاد في صادرات الخام الفنزويلية في الأيام الأخيرة.
وزاد الوضع تعقيداً هجوم إلكتروني عطّل الأنظمة الإدارية لشركة النفط الحكومية الفنزويلية، في ضربة مزدوجة جمعت بين الضغط الخارجي والاضطراب الداخلي.
وبعيداً عن الأسواق، فتح قرار ترامب نقاشاً قانونياً محتدماً داخل الولايات المتحدة وخارجها. فالحصار، وفق الأعراف الدولية، يُعد “أداة حرب”، وليس مجرد إجراء عقابي اقتصادي.
الباحثة في القانون الدولي إيلينا تشاتشكو، من كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، تقول إن الرؤساء الأمريكيين يتمتعون بسلطات واسعة لنشر القوات في الخارج، لكن إعلان حصار بهذا الشكل يمثل “اختباراً جديداً للسلطة الرئاسية” حسب رويترز.
وتضيف تشاتشكو أن الحصار مسموح به تقليدياً فقط ضمن شروط صارمة، ما يثير “تساؤلات جدية على الصعيدين القانوني المحلي والدولي”.
هذا الرأي يجد صدى داخل الكونغرس، حيث وصف النائب الديمقراطي خواكين كاسترو الحصار بأنه “عمل حربي بلا شك”، مؤكداً في منشور على منصة إكس أن هذه “حرب لم يقرّها الكونغرس قط، ولا يريدها الشعب الأمريكي”.
تصعيد عسكري ومخاوف من مواجهة مفتوحة
القرار النفطي لا يمكن فصله عن السياق العسكري الأوسع، فحملة الضغط التي يقودها ترامب ضد مادورو شملت تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في الكاريبي، وتنفيذ أكثر من 20 غارة عسكرية على قوارب في المحيط الهادي والبحر الكاريبي قرب فنزويلا، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 90 شخصاً.
الأخطر من ذلك، تصريح ترامب بأن الضربات البرية الأمريكية على الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية “ستبدأ قريباً”.
من جانبه، يرى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن الحشد العسكري الأمريكي يهدف إلى الإطاحة بنظامه والسيطرة على موارد بلاده، التي تُعد عضواً في منظمة أوبك وصاحبة أكبر احتياطيات نفط خام مؤكدة في العالم.
وقبل إعلان ترامب بيوم واحد، قال مادورو إن “الإمبريالية واليمين الفاشي يريدان استعمار فنزويلا للاستيلاء على ثرواتها من النفط والغاز والذهب وغيرها من المعادن”، مؤكداً وفق اطلاع بقش أن بلاده “أقسمت على الدفاع عن وطنها” وأن “السلام سيسود فنزويلا”.
بالنتيجة، لا يبدو قرار ترامب مجرد خطوة عقابية إضافية، بل نقطة تحول تحمل في طياتها أبعاداً اقتصادية وجيوسياسية وقانونية معقدة. فمن جهة، يهدد الحصار بإرباك أسواق النفط ورفع الأسعار عالمياً، خاصة إذا طال أمده ولم يُعوَّض نقص الإمدادات، ومن جهة أخرى يضع الإدارة الأمريكية أمام أسئلة قانونية صعبة حول حدود السلطة الرئاسية واستخدام أدوات الحرب دون تفويض تشريعي.
أما فنزويلا، فتجد نفسها مرة أخرى في قلب صراع تتداخل فيه العقوبات مع الاستعراض العسكري، والاقتصاد مع السياسة، والنفط مع حسابات النفوذ. وبين هذا وذاك، يبقى السؤال: هل يمضي هذا “الحصار النفطي” نحو تسوية سياسية، أم إنه مقدمة لانفجار إقليمي ستكون كلفته أعلى بكثير من برميل نفط؟


