
تقارير | بقش
في مشهد يذكّر بخطط سابقة لم ترَ النور، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، اليوم الخميس، عن خطة لإعادة إعمار قطاع غزة بكلفة قدرها 67 مليار دولار، تمتد على خمس سنوات، وتتوزع على ثلاث مراحل تشمل أكثر من 50 برنامجاً في 18 قطاعاً.
الخطة التي وُصفت بأنها “الأضخم في تاريخ فلسطين”، تتزامن مع استمرار حالة الغموض السياسي والأمني في القطاع، ما يجعلها أقرب إلى وثيقة نوايا منها إلى برنامج قابل للتنفيذ في المدى المنظور.
وقال مصطفى، في مؤتمر صحافي برام الله، إن مصر ستستضيف الشهر المقبل مؤتمراً للدول المانحة لجمع التمويل اللازم، مؤكداً أن الأموال ستُودع في “صندوق خاص مستقل تحت إشراف دولي ومراجعة محاسبية معتمدة”. لكن بين الوعود والواقع، تظهر فجوة عميقة لا يمكن سدّها بالتصريحات وحدها، خصوصاً في ظل غياب ضمانات واضحة لاستقرار طويل الأمد أو التزام فعلي من الجهات المانحة.
خطة ثلاثية المراحل… لكن من سيمول؟
تتضمن الخطة ثلاث مراحل متتالية:
- مرحلة أولى قصيرة (6 أشهر) بقيمة 3.5 مليار دولار للإنعاش المبكر، تشمل إعادة تشغيل الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء واتصالات وطرق، وتوفير مساكن مؤقتة ومساعدات مالية للمتضررين.
- مرحلة ثانية (3 سنوات) بتكلفة 30 مليار دولار لإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والصحية والاقتصادية.
- مرحلة ثالثة (عام ونصف) تُستكمل فيها مشاريع التنمية المستدامة والإسكان الدائم.
غير أن معظم هذه البنود تفتقر إلى آلية تنفيذ واضحة أو جدول تمويلي محدد. فالمؤتمر الموعود في القاهرة لا يضمن التزامات مالية حقيقية، لا سيما في ظل تراجع شهية المانحين الدوليين بعد عقود من الوعود غير المنجزة.
أما الحديث عن إشراف دولي، فقد أثار مخاوف بين مسؤولين فلسطينيين من أن تتحول العملية إلى إدارة خارجية جديدة للقطاع، تُقصي السلطة عن القرار الفعلي.
التدريب في مصر والأردن… “استقرار أمني” أم إعادة هيكلة أمنية؟
كشف رئيس الحكومة أن تدريب وتجنيد قوات الشرطة الفلسطينية بدأ فعلاً في مصر والأردن، بهدف فرض النظام والقانون في القطاع، معتبراً ذلك خطوة ضرورية لإطلاق الإعمار.
لكن مراقبين يرون في هذه الخطوة بداية لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بإشراف إقليمي – أمريكي، في إطار خطة ترمب التي تشترط توحيد الأجهزة الأمنية ونزع سلاح الفصائل.
ورغم أن مصطفى أكد أن “بقاء الاحتلال لن يوقف الإعمار”، إلا أن الواقع الأمني يُظهر عكس ذلك: فالمعابر ما تزال تحت السيطرة الإسرائيلية، والحدود الجنوبية تخضع لتفاهمات معقدة بين القاهرة وتل أبيب وواشنطن.
تقول مصادر دبلوماسية مطلعة إن “تدريب الشرطة في الخارج ليس خطوة فنية فقط، بل تمهيد سياسي لإعادة هندسة السلطة الأمنية في غزة، بما يتماشى مع الرؤية الأمريكية لإدارة ما بعد الحرب.”
خطة ترمب تطل مجدداً: “يجب أن تُطبق”
في إجابته على سؤال حول العلاقة بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، قال مصطفى بوضوح: “الخطة يجب أن تُطبق.”
وهو تصريح يثير أكثر من تساؤل حول مدى استقلالية القرار الفلسطيني في هذه المرحلة، خاصة أن خطة ترمب تنص على نزع سلاح حركة حماس وإشراف “قوة استقرار دولية” على الأمن في غزة.
مصطفى أكد أن “حماس وافقت على الخطة”، لكنه لم يوضح ما إذا كانت الحركة ستلتزم فعلاً بتطبيق بنودها، أو كيف ستُدار العلاقة بين الأجهزة الأمنية الجديدة والفصائل المسلحة التي ما تزال تتحكم بالواقع الميداني.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه مصطفى عن “توحيد الموقف الفلسطيني”، تبدو الانقسامات السياسية على حالها، فيما تراقب الفصائل بعين الريبة كل خطوة تتخذها السلطة تحت عنوان “الإعمار”.
التمويل الموعود: من أين سيأتي الـ67 ملياراً؟
حتى اللحظة، لا يوجد ما يشير إلى أن أي جهة دولية أو عربية مستعدة لتغطية الجزء الأكبر من التمويل.
الإدارة الأمريكية اكتفت بالإشادة بـ“الجهود الفلسطينية”، من دون أي التزام مالي، فيما تراهن السلطة على مساهمات خليجية وأوروبية لا تزال “قيد النقاش”.
مصادر اقتصادية فلسطينية حذّرت من أن “التمويل سيكون مشروطاً سياسياً”، وقد يتحول إلى أداة ضغط على السلطة نفسها لتطبيق بنود خطة ترمب بحذافيرها، بما في ذلك الترتيبات الأمنية.
الحديث عن صندوق دولي بإشراف خارجي يثير أيضاً تساؤلات حول مدى سيادة الحكومة الفلسطينية على أموال الإعمار، خصوصاً مع سوابق في قضايا الفساد وضعف الشفافية في إدارة المساعدات.
إعمارٌ بلا سيادة وتمويلٌ بلا ضمانات
بين التصريحات المتفائلة في رام الله والوقائع المتشائمة في غزة، تتضح معالم مشهد مألوف: خطط إعمار كبرى تُعلن على المنصات، لكن تنفيذها يبقى رهينة السياسة والتمويل.
السلطة الفلسطينية تضع رهانها على المجتمع الدولي، بينما يتحرك الأمريكيون والإسرائيليون وفق أجندة خاصة، والدول العربية تدخل بخطوات محسوبة ومؤقتة.
في النهاية، يبدو أن غزة لا تنتظر إعماراً بالمعنى التقليدي، بل إعادة ترتيب للنفوذ بين القوى الإقليمية والدولية تحت شعار “الإنقاذ الإنساني”.
ومع أن محمد مصطفى أعلن بثقة أن “الخطة يجب أن تُطبق”، إلا أن كثيرين في غزة يتهامسون بسخرية مُرة: “نحن رأينا خططاً كثيرة من قبل… لكننا لم نرَ بيتاً يُبنى حتى النهاية.”