روسيا تُفاجئ الغرب: المقايضة تعود كأداة ذكية لتجاوز العقوبات بدعم من الصين

الاقتصاد العالمي | بقش
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وتشديد العقوبات الغربية، لجأت روسيا إلى إعادة إحياء أسلوب المقايضة في تجارتها الخارجية، لكن هذه المرة بشكل منظم ومدروس، ولم يعد الأمر مجرد وسيلة بدائية، بل تحوّل إلى أداة استراتيجية لتأمين احتياجاتها وتصدير فائضها دون المرور عبر النظام المالي الغربي.
تشمل الصفقات الجديدة مبادلة القمح الروسي بالسيارات الصينية، وتبادل بذور الكتان بالمواد الإنشائية، وهو ما يكشف عن مرونة موسكو وقدرتها على التكيّف في بيئة مالية معقدة.
الاقتصاد الروسي البالغ 2.2 تريليون دولار أظهر أنه ليس سهل الكسر، بل قادر على إنتاج حلول غير تقليدية تحافظ على تدفق التجارة، حتى في أصعب الظروف.
أكثر من 25 ألف عقوبة فُرضت على روسيا منذ 2022، شملت فصل البنوك عن نظام “سويفت”، وحظر التعامل بالدولار واليورو في صفقات واسعة، وفق متابعة مرصد “بقش” لملف العقوبات. لكن هذه القيود لم تؤدِ إلى شلل اقتصادي كما توقع الغرب، بل أطلقت ديناميكيات بديلة أبرزها التبادل العيني.
بدلاً من انتظار مسارات مالية مسدودة، وجدت الشركات الروسية في المقايضة قناة مضمونة لتجاوز التعطيل، ما جعلها وسيلة لتأمين الاستمرارية لا مجرد التفاف مؤقت. بل إن وزارة الاقتصاد الروسية في 2024 أصدرت “دليل المقايضة الأجنبية”، وقدمت للشركات إرشادات عملية حول كيفية تنفيذ الصفقات، في مؤشر واضح على تبنّي الدولة لهذه الآلية كجزء من سياساتها التجارية طويلة الأمد.
الصين شريك أساسي في الصمود
الصين لعبت دوراً محورياً في هذا التوجه، فبينما تحافظ البنوك الكبرى في بكين على الحذر من العقوبات الثانوية، فتحت عشرات الشركات الصينية باب المقايضة مع روسيا، من خلال تبادل السلع الصناعية والمعدات مقابل القمح والطاقة والمعادن.
التبادل التجاري بين البلدين بلغ 237 مليار دولار في 2024، وهو رقم قياسي يُظهر أن موسكو وبكين تمكّنتا من بناء محور تجاري بديل عن الغرب. هذه الأرقام تعكس أيضًا كيف تحوّلت الصين من مجرد شريك اقتصادي إلى ركيزة استراتيجية تدعم الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات.
هذا المحور الثنائي لا يقتصر على تبادل السلع فقط، بل يشكّل رسالة سياسية مفادها أن النظام الاقتصادي العالمي لم يعد خاضعاً لهيمنة الدولار والغرب وحدهما.
وكالة رويترز رصدت ثماني صفقات مؤكدة جرت خلال الأشهر الماضية، شملت تبادل سبائك الألومنيوم والصلب الروسية بمحركات بحرية وتجهيزات صناعية من الصين. هذه الصفقات لا تمر عبر البنوك الغربية أو منظومة “سويفت”، ما يجعلها غير قابلة للتتبع بسهولة، ويمنحها درجة عالية من المرونة أمام ضغوط العقوبات.
المحلل الصناعي الروسي مكسيم سباسكي وصف المقايضة بأنها “عرض مباشر لانهيار الدولرة في التجارة الدولية”، مؤكداً أن هذه العمليات ستزداد توسعاً مع استمرار القيود الغربية.
الفائض التجاري الروسي تراجع 14% بين يناير ويوليو 2025 ليصل إلى 77.2 مليار دولار، مع انخفاض الصادرات إلى 232.6 مليار وزيادة الواردات إلى 155.4 مليار حسب بيانات جمعها بقش. لكن الفجوة بين بيانات البنك المركزي ومصلحة الجمارك وصلت إلى 7 مليارات دولار في النصف الأول من العام، وهو ما فسره الخبراء بزيادة حجم الصفقات غير النقدية، وعلى رأسها المقايضة.
هذه الأرقام لا تُظهر ضعفاً، بل تعكس بوضوح أن روسيا نجحت في بناء قنوات جديدة لا تعتمد على الدولار أو اليورو، وهو ما كان يُعد مستحيلاً قبل سنوات قليلة.
مقارنة مع الاقتصادات الغربية
بينما راهن الغرب على انهيار الاقتصاد الروسي، نجد أن موسكو نجحت في الحفاظ على معدلات نمو فاقت بعض دول مجموعة السبع. على سبيل المثال، الاقتصاد الألماني دخل مرحلة ركود بفعل أزمة الطاقة والتضخم، فيما تعاني بريطانيا من تباطؤ اقتصادي واسع مع ارتفاع الدين العام.
مقابل ذلك، أظهرت روسيا قدرة على امتصاص الضغوط وإعادة توجيه تجارتها شرقاً وجنوباً، وهو ما جعلها تبدو أكثر مرونة من بعض الاقتصادات الأوروبية التي كانت تتوقع انهيارها. النجاح الروسي في استعادة المقايضة يُظهر للعالم أن العقوبات ليست سيفاً قاطعاً كما يروج الغرب، بل إنها قد تكون دافعاً لإيجاد أنظمة موازية أكثر استقلالية.
روسيا اليوم لا تبيع مواردها فقط، بل تبني قواعد جديدة للتجارة العالمية، تنقل جزءاً من النشاط الاقتصادي خارج السيطرة الغربية. هذا التوجه قد يُلهم دولاً أخرى تبحث عن بدائل، مثل إيران وفنزويلا وبعض دول إفريقيا، لتوسيع نطاق التبادل العيني وتقليص الاعتماد على الدولار.
وإذا استمرت موسكو في توسيع هذه الآلية، فمن المتوقع أن يتجاوز حجم المقايضة عشرات المليارات سنوياً خلال السنوات المقبلة. وبالنظر إلى أن روسيا تظل من أكبر مصدري القمح والنفط والغاز في العالم، فإن لديها ما يكفي من الموارد لتبادلها مقابل السيارات والمعدات والسلع الصناعية من الصين والهند وغيرهما.
النتيجة المتوقعة هي ولادة سوق عالمية موازية، تُدار خارج قواعد الغرب، وتمنح روسيا هامش مناورة أكبر في مواجهة الضغوط، فيما تفقد أوروبا وأمريكا جزءاً من قدرتها على التحكم في مسارات التجارة العالمية.