
تقارير | بقش
شهد عام 2024 واحداً من أكبر التحولات في صناعة السلاح منذ نهاية الحرب الباردة، إذ قفزت المبيعات العالمية بنسبة 8.9% لتصل إلى 679.2 مليار دولار وفق اطلاع مرصد “بقش”، مدفوعةً باندلاع حروب مفتوحة، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، وعودة سباق التسلّح بين القوى الكبرى. وفي الخلفية، تقف حرب غزة والحرب الروسية الأوكرانية باعتبارهما محرّكين مباشرين لطلب غير مسبوق على الذخائر، والطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الجوي.
ورغم أن الولايات المتحدة وأوروبا واصلتا السيطرة على الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي، فإن مشهد عام 2024 أظهر أيضاً تباينات لافتة: نمو في كل المناطق تقريباً، باستثناء آسيا وأوقيانوسيا، حيث قادت الصين تراجعاً ملحوظاً بسبب اضطرابات داخلية وملفات فساد أثّرت مباشرة على عقود التسلّح.
وبحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري)، فإن إجمالي إيرادات شركات السلاح –بما يشمل أنشطة غير عسكرية– بلغ 1.65 تريليون دولار في 2024، في رقم يعكس تحوّل الصناعة إلى “اقتصاد حرب” متكامل، يعمل بوتيرة أسرع من قدرة الحكومات على ضبطه.
ويكشف تحليل بقش أن الاتجاه العام يتجاوز مجرد ارتفاع المبيعات؛ فالمشهد العالمي يتشكل اليوم حول مراكز إنتاج تتوسع، وسلاسل توريد تتعرض للضغط، ومنافسة تكنولوجية متصاعدة، بينما تدخل دول جديدة إلى سوق التسليح كلاعبين حيويين لا مجرد مستوردين.
هيمنة أمريكية… وشركات تتضخم مع الطلب الحربي
تتصدر الشركات الأمريكية قائمة أكبر منتجي السلاح بإجمالي عائدات بلغ 334 مليار دولار في 2024. وتحتل لوكهيد مارتن المرتبة الأولى عالمياً بإيرادات بلغت 64.65 مليار دولار، مدفوعة بطلب ضخم على مقاتلات إف-35 وأنظمة الدفاع الصاروخي.
وتليها شركتا آر تي إكس ونورثروب غرومان بإجمالي عائدات يتجاوز 81 مليار دولار، إذ استفادتا من برامج التحديث العسكري الأمريكية وتوسّع الطلب الدولي على الأنظمة المتقدمة. ورغم هذا الصعود، تواجه الشركات الأمريكية تحدياً صارخاً يتمثل في التأخيرات المستمرة في البرامج الكبرى، بما فيها الغواصات النووية من فئة كولومبيا والصاروخ الباليستي سنتينل.
ويؤكد خبراء سيبري أن تكاليف الإنتاج المرتفعة، ونقص العمالة المتخصصة، وتجاوزات الميزانيات، تهدد الجدول الزمني لتسليم أنظمة تعدّ العمود الفقري للردع الأمريكي. ورغم الإنفاق الهائل، تبدو وزارة الدفاع الأمريكية مضطرة لإعادة تقييم خطط التحديث نتيجة ضغوط الميزانية.
ورغم العقبات، لا يزال الطلب المحلي وحده كافياً لدفع الشركات الأمريكية نحو توسعات إضافية، أبرزها في الذكاء الاصطناعي العسكري وأنظمة الدفاع المضادة للمسيّرات، وهو ما يعزز موقع الولايات المتحدة كأكبر مركز تصنيع سلاح في العالم دون منافس مباشر.
أوروبا تعود إلى سباق التسلّح مع موجه الطلب الأوكراني
ارتفعت عائدات أكبر 26 شركة أوروبية (باستثناء الروسية) بنسبة 13% لتصل إلى 151 مليار دولار. ويعكس هذا الارتفاع عودة القارة إلى مرحلة إعادة التسلّح، بدافع مباشر من الحرب الروسية الأوكرانية.
وتُعد مجموعة “تشيكوسلوفاك” أبرز مفاجآت 2024، إذ حققت نمواً قدره 193% لتصل إيراداتها إلى 3.6 مليارات دولار، معظمها من عقود أوكرانية. كما رفعت الصناعات الدفاعية الأوكرانية إيراداتها بنسبة 41% لتبلغ 3 مليارات دولار، مستفيدة من الطلب المحلي الملحّ مع استمرار الحرب.
ويقول محللو سيبري إن أوروبا دخلت سباقاً واسع النطاق لبناء خطوط إنتاج جديدة، إلا أن العقبة الأبرز تكمن في الحصول على المواد الأولية، خصوصاً التيتانيوم والمعادن النادرة. وقد اعتمدت شركات أوروبية مثل إيرباص وسافران قبل 2022 على الواردات الروسية، ما دفعها إلى إعادة هندسة سلاسل التوريد تحت ضغط الوقت.
وتواجه أوروبا تحدياً إضافياً يتمثل في القيود الصينية على تصدير المعادن، وهو ما دفع شركات مثل تاليس وراينميتال للتحذير من ارتفاع كبير في تكاليف تصنيع الذخائر وأنظمة الدفاع، ما قد يؤخر أهداف التسلّح الأوروبية خلال السنوات المقبلة.
إنتاج السلاح يعيد تشكيل الاقتصاد الروسي
رغم العقوبات الدولية، ارتفعت عائدات شركات السلاح الروسية المدرجة ضمن أكبر 100 شركة بنسبة 23% لتصل إلى 31.2 مليار دولار. وتُعد روستك وشركة بناء السفن المتحدة أبرز المستفيدين من الطلب المحلي المتصاعد.
ويشير باحثو سيبري إلى أن الصناعة الروسية تعمل اليوم ضمن نموذج “اقتصاد حرب” كامل، إذ جرى تحويل قدر كبير من القدرة الصناعية المدنية إلى خطوط إنتاج عسكرية، رغم نقص العمالة المتخصصة وقيود الحصول على المكونات الغربية.
ورغم هذه التحديات، أثبتت الشركات الروسية أنها أكثر قدرة على التكيّف مما توقّعه كثير من الخبراء الغربيين. فالطلب الداخلي المرتفع عوّض انخفاض الصادرات، بينما سمح الالتفاف على العقوبات عبر وسطاء آسيويين بالحصول على مكونات حساسة تُستخدم في الصواريخ والمسيّرات.
ويرى محللون تتبَّع بقش تقديراتهم أن استمرار النمو الروسي مرهون بمدى قدرة موسكو على معالجة نقص العمالة وابتكار بدائل للتكنولوجيا الغربية، لكنه في الوقت نفسه يعكس قدرة الصناعة الروسية على الصمود في ظروف ضاغطة وغير مواتية.
آسيا وأوقيانوسيا… تراجع صيني يُغيّر موازين المنطقة
كانت آسيا وأوقيانوسيا المنطقة الوحيدة التي شهدت تراجعاً في إيرادات شركات السلاح، بانخفاض بلغ 1.2% ليصل الإجمالي إلى 130 مليار دولار. لكن التراجع الإقليمي يخفي تفاوتاً حاداً داخل المنطقة.
فقد تراجعت عائدات شركات السلاح الصينية الثماني المدرجة ضمن أكبر 100 شركة بنسبة 10%، وكان أكبرها انخفاض شركة نورينكو بنسبة 31% وفق قراءة بقش. ويرجع ذلك –بحسب سيبري– إلى فضائح فساد وتأجيل عقود رئيسية، ما أوجد حالة من عدم اليقين داخل قطاع التصنيع العسكري الصيني.
وفي المقابل، صعدت شركات اليابان وكوريا الجنوبية بقوة، إذ ارتفعت عائدات الشركات اليابانية بنسبة 40% لتصل إلى 13.3 مليار دولار، بينما صعدت الشركات الكورية الجنوبية بنسبة 31% لتبلغ 14.1 مليار دولار، مدفوعة بطلب أوروبي متزايد على المدفعية والذخائر وأنظمة الدفاع الجوي.
وتشير بيانات بقش إلى أن النمو الكوري الجنوبي خصوصاً يعكس انتقال سيول من موقع “مورد ثانوي” إلى لاعب رئيسي في سوق الأسلحة العالمية، معتمدين على الأسعار التنافسية والقدرة على تسليم سريع مقارنة بالمصنّعين الغربيين.
ورغم تراجع الصين، يبقى الشرق الآسيوي ساحة تنافس عسكري متسارعة، ومرشحاً لتغييرات أكبر مع تصاعد التوترات في تايوان وبحر الصين الجنوبي.
يكشف عام 2024 أن صناعة السلاح لم تعد مجرد قطاع اقتصادي، بل منظومة عالمية تتحدد وفقها ملامح النفوذ الجيوسياسي. فارتفاع الإيرادات إلى مستويات قياسية جاء نتيجة مباشرة لتوترات ممتدة، وتوقعات بمواجهات عسكرية لا تقتصر على حرب أوكرانيا أو غزة.
ويشير تحليل بقش إلى أن العالم يدخل مرحلة “إعادة تسلّح كبرى”، تدفع فيها الحكومات نحو بناء مخزونات أكبر، وتطوير تكنولوجيا أكثر دقة، وتعزيز قدرات الردع. وفي هذا السياق، تتسع فجوة القدرات بين الدول القادرة على الإنتاج وتلك التي تعتمد على الاستيراد.
ومع استمرار الطلب، وتداخل الأزمات، وتنافس القوى الكبرى، يبدو أن صناعة السلاح ستبقى أحد أسرع القطاعات نمواً في العالم خلال السنوات المقبلة… وربما العنوان الأبرز لعالم تتقدم فيه القوة على الدبلوماسية.


