الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

سيارات الصين مقابل معادن إيران.. تجارة المقايضة تنتعش بسبب العقوبات

الاقتصاد العالمي | بقش

مع تصاعد العقوبات الغربية على إيران، تعود إلى الواجهة واحدة من أقدم صور التبادل التجاري، وهي تجارة المقايضة، لكن هذه المرة ليست بين دول نامية، بل بين إيران وعملاق اقتصادي عالمي: الصين.

ولعل هذا المشهد يعيد تشكيل ملامح النظام التجاري العالمي، ويفتح باب التوقعات والتساؤلات حول مستقبل هيمنة الدولار “سلاح العقوبات الرائج”، ودور بكين في الاقتصاد العالمي لاحقاً.

وحول تفاصيل الشبكة المعقدة لهذه المقايضة، تقول وكالة بلومبيرغ في تقرير اطلع عليه بقش، إن هذه الشبكة تقوم على تبادل “السيارات الصينية” مقابل “المعادن الإيرانية”، في نموذج جديد يتجاوز العقوبات الأمريكية والأوروبية.

جذور وآليات الصفقة

بدأت تجارة المقايضة بين الصين وإيران قبل نحو سبع سنوات، تزامناً مع تشديد العقوبات الأمريكية عقب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وحينها واجهت إيران صعوبات حادة في الوصول إلى النظام المالي العالمي، مما جعل الدفع النقدي بالدولار أو اليورو شبه مستحيل.

وفي هذا السياق، لجأت الشركات الإيرانية إلى حلول بديلة، أبرزها نظام المقايضة مع الشركات الصينية، مستخدمةً عملات غير غربية مثل الريال الإيراني واليوان الصيني، وبهذا ظلت العمليات قانونية من منظور بكين، إذ لا تشملها القيود المفروضة على التعاملات بالدولار أو مع الكيانات الغربية.

وتجري الصفقة بين شركتين صينيتين رئيسيتين، هما شركة “شيري أوتوموبيل” التي تُعتبر أكبر مصدّر للسيارات الصينية إلى الخارج، والحادية عشرة عالمياً بين شركات سيارات الركاب. والثانية هي شركة “تونغلينغ نون فيرس ميتالز غروب” أبرز شركات صناعة المعادن في الصين، ومقرها في مقاطعة آنهوي.

وكانت شركة “شيري أوتوموبيل” تُرسل محركات وهياكل سيارات شبه مجمعة (نظام التجميع الجزئي) إلى إيران عبر شركة وسيطة في آنهوي، حيث تُركّب محلياً وتباع تحت العلامة التجارية MVM التابعة لشيري.

في المقابل، تُسلَّم للصين شحنات من النحاس والزنك الإيرانيين، تُستخدم لتغذية مصانع المعادن الصينية وتُوزع داخلياً بواسطة “تونغلينغ”.

وتشير مصادر بلومبيرغ إلى أن الصفقة كانت تنص على بيع نحو 90 ألف سيارة سنوياً، إضافةً إلى فترات تضمنت مقايضة منتجات زراعية مثل الكاجو والفستق الإيراني بقطع غيار سيارات صينية، ورغم أن القيمة الإجمالية لهذه المقايضات لا تتجاوز بضع مئات من الملايين من الدولارات، فإنها تمثل نموذجاً متكرراً يتنامى في التجارة العالمية خارج منظومة الدولار.

وتتمحور العملية حول شبكة شركات في مقاطعة آنهوي، التي تُعد قلب الصناعة الصينية الحديثة. وتملك حكومة مدينة “ووهو” تملك الحصة الأكبر في شركة “شيري”، بينما تمتلك حكومة المقاطعة بالكامل الشركة الأم لـ”تونغلينغ”.

وثمة شركة ثالثة مقرها في آنتشينغ كانت تتولى تجميع المكونات وإرسالها إلى إيران.

ودخلت “شيري” السوق الإيرانية عام 2004 من خلال شراكة مع شركة محلية حملت لاحقاً اسم Modiran Vehicle Manufacturing (MVM)، التي أصبحت العلامة الأجنبية الأكثر شهرة في إيران.

وفي عام 2001 بدأت “شيري” تصدير سياراتها، وكانت إيران أكبر أسواقها الخارجية، حتى شكّلت في عام 2016 أكثر من نصف صادرات الشركة إلى الخارج.

تحديات قانونية وضغوط غربية

ورغم أن القوانين الصينية تَعتبر التعامل مع إيران مشروعاً، فإن الضغوط الدولية جعلت بعض البنوك الغربية تتجنب التعاون مع الشركات الصينية ذات الارتباط بطهران، فقد كشف ثلاثة مصادر أن بنك الاستثمار الأمريكي “جيه بي مورغان” انسحب من المشاركة في طرح “شيري” للاكتتاب في هونغ كونغ بسبب مخاوف تتعلق بإفصاحاتها حول التعامل مع دول خاضعة للعقوبات، رغم أن مستشارها القانوني أكد أن نشاطها لا يشكل خرقاً مباشراً للعقوبات الأمريكية الأساسية.

وبالفعل، اقتصرت البنوك المشاركة في الطرح على مؤسسات صينية بالكامل. وقد علقت وزارة الخارجية الصينية حسب اطلاع بقش بأنها ليست على علم بهذه التجارة، لكنها أكدت معارضتها العقوبات الأحادية غير القانونية، معتبرةً التعاون مع إيران مشروعاً وعادلاً ويجب احترامه.

الخيار البديل: المقايضة العالمية تعود

تُعتبر صفقة الصين وإيران جزءاً من تحول عالمي أوسع، إذ بدأت أنظمة المقايضة بالعودة تدريجياً في ظل تزايد العقوبات الأمريكية، فقد تبادلت سريلانكا الشاي مقابل النفط الإيراني، وأرسلت الصين قطع غيار سيارات مقابل الفستق الإيراني، وازداد هذا الاتجاه بعد العقوبات الغربية الواسعة على روسيا عام 2022، حتى إن وزارة الاقتصاد الروسية أصدرت دليلاً رسمياً لتنظيم تجارة المقايضة.

وتاريخياً كانت هذه الأنظمة شائعة خلال الحرب الباردة عندما كانت العملات الصعبة نادرة، إلا أنها تراجعت مع صعود الدولار وهيمنة النظام المالي الأمريكي، قبل أن تُعيدها التوترات الجيوسياسية والعقوبات إلى الواجهة مجدداً.

وتكشف هذه الصفقة عن عدة تحولات جوهرية في النظام التجاري العالمي، منها تآكل هيمنة الدولار، حيث تزايد استخدام اليوان الصيني والريال الإيراني والروبل الروسي يعكس اتجاهاً نحو “عولمة بديلة” تقودها الصين وروسيا وإيران، حيث تسعى الدول المتضررة من العقوبات إلى بناء شبكات اقتصادية موازية تتفادى النظام المالي الأمريكي.

ولم تعد مقاطعة آنهوي الصينية مجرد مركز صناعي محلي، بل تحولت إلى لاعب اقتصادي دولي يشارك في هندسة تجارة تتحدى العقوبات الغربية.

ورغم نجاح شركة “شيري” في المناورة القانونية، إلا أن استمرار هذه الأنشطة قد يعرّضها لعقوبات ثانوية ويحدّ من قدرتها على جذب استثمارات أجنبية، خصوصاً من البنوك الغربية المتوجسة.

بالنتيجة تبدو صفقة “السيارات مقابل المعادن” بين الصين وإيران انعكاساً حياً للكيفية التي تتكيف بها الاقتصادات الصاعدة مع عالم تتزايد فيه القيود الجيوسياسية، فبينما تسعى الولايات المتحدة لترسيخ هيمنتها المالية عبر العقوبات، تبني الصين منظومة تبادل بديلة، تعيد إلى الذاكرة مفاهيم المقايضة القديمة ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين.

وقد تظهر الصفقة محدودة الأثر في أرقامها، لكنها تحمل دلالات كبرى على اتجاهات الاقتصاد العالمي المقبلة، حيث تصبح التجارة أكثر تسييساً، وتتحول المقايضة من إرث ماضٍ إلى أداة استراتيجية لمواجهة العقوبات والهيمنة النقدية الغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش