شركات النفط الغربية تحصد أرباحاً هائلة من ضرب روسيا في سوق الطاقة.. تصعيد يغير قواعد اللعبة

الاقتصاد العالمي | بقش
في الوقت الذي تزداد فيه حدة المواجهة الاقتصادية بين الغرب وروسيا، بدأت آثارها بالظهور بشكل واضح في سوق الطاقة العالمي.
لكن المفاجأة ليست فقط في تراجع صادرات موسكو أو ارتفاع التوتر الجيوسياسي، بل في المستفيد الحقيقي من هذه المعركة: شركات النفط الغربية العملاقة التي وجدت نفسها أمام موجة أرباح لم تتوقعها بهذا الحجم.
منذ يوليو، تصاعدت ضربات الطائرات المسيرة الأوكرانية التي تستهدف مصافي النفط الروسية الموجهة للتصدير، ما أدى إلى تراجع إنتاج الوقود المكرر الروسي بشكل كبير. هذه التطورات، إضافة إلى العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وسّعت الهوة بين السوق الروسية والأسواق العالمية، لكنها في المقابل دفعت شركات مثل شل وإكسون وشيفرون وتوتال إنرجيز لتحقيق قفزات مالية كبيرة وفق اطلاع مرصد “بقش”.
في مشهد تبدو فيه أوروبا قلقة من الإمدادات، والاقتصاد العالمي متوجس من أي هزة جديدة، تبدو شركات النفط الغربية كمن يمشي في العاصفة لكنه يحصد ثمارها. فاضطراب الإمدادات الروسية أعاد توزيع النفوذ في سوق النفط، ودفع بهوامش التكرير إلى أعلى مستوياتها منذ سنوات، مؤكداً أن الحرب الاقتصادية قد تكون مربحة لمن يعرف كيف يدير المخاطر.
هذا المشهد يعيد تكرار درس معروف في الأزمات العالمية: عندما يهتز التوازن بين العرض والطلب، لا يتضرر الجميع، بل قد يصعد من بين الركام لاعبون كبار يمتلكون المرونة والقدرة على الاستفادة من التقلبات. وشركات الطاقة الكبرى كانت أول من التقط الإشارة واستثمرها.
انهيار في صادرات الوقود الروسي يغيّر قواعد السوق
منذ منتصف العام، أدت هجمات الطائرات المسيرة الأوكرانية إلى تعطيل قطاع التكرير الروسي بشكل ملموس، وخاصة تلك المنشآت المخصصة للتصدير.
ووفق بيانات “كبلر” لتحليلات الطاقة التي تتبَّعها بقش، تراجعت صادرات روسيا من الوقود المكرر بحراً نحو نصف مليون برميل يومياً، لتستقر قرب مليوني برميل يومياً، وهو المستوى الأدنى منذ أكثر من خمس سنوات.
هذا التراجع، الذي يمثل فجوة ضخمة في سوق المنتجات النفطية، كان كفيلاً بإعادة تشكيل الديناميكية العالمية للعرض. فبدلاً من التخمة التي كان المستثمرون يخشونها مع بداية السنة، ظهرت حالة من الانكماش النسبي الذي أنعش أسعار المنتجات المكررة حول العالم، ورفع هوامش ربح المصافي الغربية.
وبالنسبة لأوروبا، التي كانت تعتمد سابقاً على جزء كبير من الإمدادات الروسية عبر قنوات مباشرة أو التفافية، فإن هذا الانخفاض لم يكن مجرد ضربة لروسيا، بل فرصة لتعزيز عقود الإمداد مع شركات غربية وبدائل إقليمية، ما قلّل مخاطر الاضطراب لكنه فتح الباب أمام الأسعار للصعود.
هذا الواقع الجديد جسّد نتيجة غير مباشرة للحرب: الغرب لا يكتفي بعقوبات تجارية، بل يضرب قدرة روسيا على تصدير الوقود، ليعيد تشكيل خارطة الطاقة ومن يتحكم فيها.
أرباح قياسية في التكرير والتداول
مع تراجع إمدادات الوقود الروسية وارتفاع هامش الربح، قفزت أرباح التكرير لدى شركات النفط الكبرى بنسبة جماعية بلغت 61% في الربع الثالث مقارنة بالربع السابق. وارتفع إجمالي أرباح هذه الشركات بنحو 20%، في مؤشر واضح على حجم الفرص التي ولّدتها الأزمة.
شركة إكسون، التي تعد أكبر منتج أمريكي، أعلنت ارتفاع أرباح قسم منتجات الطاقة بأكثر من 30% لتصل إلى 1.84 مليار دولار حسب قراءة بقش، مدفوعة باضطرابات الإمداد العالمية.
وفي بريطانيا، أظهرت بيانات BP تحقيق هامش تكريري عند مستوى 15.8 دولار للبرميل، بزيادة تتجاوز 33% ربعياً، وهو مستوى يرتبط عادة بفترات اضطراب كبرى في السوق العالمية.
ولا يتوقف الأمر عند التكرير فقط. مكاتب التداول لدى شل وبريتيش بتروليوم وتوتال إنرجيز حققت مكاسب قوية من التقلبات، مستفيدة من القدرة على التحرك السريع بين الأسواق والتعامل مع اختلاف الأسعار الفورية. هذه الوحدات، التي كانت تعتبر “آلة صامتة” داخل شركات الطاقة، أصبحت اليوم أحد الأعمدة الرئيسية لزيادة الأرباح.
هذا الأداء يوضح أن شركات النفط الكبرى لم تكن مجرد متفرج على الأزمة، بل ساهمت في تحويلها إلى فرصة استراتيجية لتعزيز مراكزها المالية.
العقوبات: ضربات موجَّهة تزيد أرباح الغرب
العقوبات الغربية لم تكن مجرد ضغط سياسي، بل أداة اقتصادية أدت إلى تضييق الخناق على القطاع النفطي الروسي. ففي يوليو، اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بحظر الوقود المنتج من النفط الروسي ابتداءً من يناير 2026، بهدف سد ثغرة كانت تسمح لدول مثل الهند وتركيا بإعادة تصدير منتجات روسية لأوروبا بعد إعادة تكريرها.
ثم جاءت الضربة الأكبر في 22 أكتوبر، عندما فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوبات على شركتي روسنفت ولوك أويل، اللتين تمثلان نحو 5% من الإمدادات العالمية و3.3 مليون برميل يومياً من صادرات الخام والمنتجات المكررة حسب اطلاع بقش. وهذه الخطوة أدت إلى قفزة فورية في الأسعار ودفعت المشترين حول العالم لإعادة موازنة مصادر التوريد.
هذه القيود عمقت الانفصال بين الخام الروسي والسوق الغربية، وأجبرت المشترين على التوجه لمصادر بديلة أبرزها شركات النفط الكبرى، مما زاد الطلب على منتجاتها ووسع هوامشها التشغيلية. وبذلك تحولت العقوبات إلى محرك ربح إضافي لشركات الطاقة الغربية الكبرى.
هل تتكرر صدمة 2022؟
رغم هذه التطورات الحادة، لا يرى محللون أن السوق تتجه نحو صدمة أسعار شبيهة بما حدث عقب غزو أوكرانيا في 2022. الفارق اليوم هو مرونة أكبر في الإمدادات، ووجود “أسطول الظل” من الناقلات الذي يدعم استمرار تدفق النفط الروسي إلى بعض الأسواق خارج الغرب.
ومع ذلك، فإن هامش الربح المرتفع سيظل قائماً في المدى القريب وفق قراءة بقش، خصوصاً مع استعداد الغرب لفرض مزيد من القيود والضغط التشغيلي على موسكو. والطلب المتزايد من آسيا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى ضعف بعض الإنتاج في دول أخرى، قد يُبقي السوق محكومة بحساسية فائقة للتقلبات الجيوسياسية.
بمعنى آخر، التوتر لن يختفي، لكنه سيتحول إلى نمط مستمر يمنح شركات النفط الكبرى بيئة مثالية لتعظيم أرباحها من التكرير والتجارة، حتى مع استقرار أسعار الخام نسبياً.
مشهد الطاقة العالمي اليوم ليس مجرد تنافس على إمدادات النفط، بل معركة اقتصادية كاملة تُستخدم فيها الطائرات المسيرة، والعقوبات، والتحالفات التجارية كأدوات استراتيجية. وفي قلب هذه العاصفة، تقف شركات النفط الكبرى كأكبر الرابحين، بعدما نجحت في تحويل المخاطر الجيوسياسية إلى مكاسب تشغيلية.
لكن هذا النجاح يفتح باباً لسؤال أكبر: هل يمكن أن يبقى هذا الوضع مستداماً؟ طالما بقيت روسيا تحت الضغط والطاقة سلاحاً جيوسياسياً فعالاً، فإن الشركات الغربية ستظل تتمتع بموقع القوة. غير أن استمرار الاعتماد على أزمات جيوسياسية لرفع الأرباح قد يخلق دورة من التقلبات يصعب التنبؤ بنتائجها على المدى البعيد.
ومع كل تحرك جديد في العقوبات أو ساحة القتال الأوكرانية، يتضح أن معركة النفط ليست مجرد صراع على برميل، بل على النفوذ، والمكانة، والمستقبل الاقتصادي للنظام الدولي. ومن يعرف إدارة هذه اللعبة، يحصد ذهب الأزمات.


