
تقارير | بقش
أعلنت إسرائيل المصادقة على اتفاق تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر، واصفةً إياها بأنها أكبر صفقة غاز في تاريخ الكيان، وهو ما يُعد محطة مفصلية في إعادة تشكيل معادلات الطاقة والسياسة في شرق البحر المتوسط.
فالاتفاق، الذي تبلغ قيمته نحو 35 مليار دولار وفق اطلاع “بقش”، يربط بين احتياجات مصر المتزايدة للطاقة، وطموحات الكيان الإسرائيلي للتحول إلى لاعب إقليمي رئيسي في سوق الغاز، في سياق إقليمي مضطرب وتراجع رهانات سابقة على الاكتفاء الذاتي والتكامل الإقليمي.
ويقضي الاتفاق، الموقّع بين إسرائيل من جهة، وشركة شيفرون الأمريكية وشريكتيها الإسرائيليتين نيوميد وريشيو من جهة أخرى، بتصدير الغاز من حقل ليفياثان إلى مصر حتى عام 2040 أو إلى حين استكمال قيمة العقود.
وحسب قراءة بقش بيانات الصفقة، يبلغ الاحتياطي الكلي لحقل ليفياثان قرابة 600 مليار متر مكعب، ويبلغ حجم التصدير إلى مصر نحو 130 مليار متر مكعب. وأُقرّت مدة الاتفاق حتى عام 2040. وهذه الأرقام تضع الصفقة في مصاف الاتفاقات الاستراتيجية طويلة الأجل.
أزمة الطاقة المصرية ومكاسب إسرائيل
كانت مصر حتى وقت قريب تطرح نفسها كمركز إقليمي لتسييل وتصدير الغاز، مستندة إلى اكتشافات كبرى مثل حقل “ظهر”، لكن تراجع الإنتاج المحلي منذ عام 2022، بالتوازي مع ارتفاع الاستهلاك المحلي وتزايد الطلب على الكهرباء والصناعة، أطاح بهذه الطموحات.
ونتيجة لذلك اضطرت مصر إلى استيراد الغاز الطبيعي المسال بمليارات الدولارات، وتعرّض ميزان المدفوعات لضغوط إضافية، وتراجعت قدرة القاهرة على الوفاء بالتزامات التصدير. وفي هذا السياق، بدا الغاز الإسرائيلي خياراً أقل كلفة سياسية واقتصادية من الاستيراد من الأسواق العالمية، خصوصاً في ظل البنية التحتية القائمة لنقل الغاز وتسييله في مصر.
أما إسرائيل فتكسب من الصفقة انتقالها من منتج محلي إلى لاعب إقليمي، بالنسبة لإسرائيل لا تتعلق الصفقة فقط بعوائد مالية ضخمة، بل بتعزيز مكانتها كمصدر طاقة موثوق، وتثبيت حقل ليفياثان كمحور استثماري طويل الأجل، وجذب استثمارات إضافية لتوسعة الحقل، وتحويل الطاقة إلى أداة نفوذ سياسي.
وإعلان شيفرون قرب اتخاذ قرار استثماري نهائي لتوسيع الحقل كان مشروطاً بالحصول على ترخيص التصدير، ما يعني أن موافقة الحكومة الإسرائيلية فتحت الباب أمام مليارات إضافية من الاستثمارات الأجنبية.
دلالات سياسية تتجاوز سوق الطاقة
وصف رئيس وزراء الكيان نتنياهو الصفقة بأنها ستُسهم في “تعزيز الاستقرار في المنطقة”، وهو توصيف يعكس الرؤية الإسرائيلية لاستخدام الطاقة كوسيلة لربط الدول المجاورة بشبكة مصالح اقتصادية طويلة الأجل، لتقليل احتمالات الصدام السياسي المباشر، ولإعادة تعريف مفهوم “السلام” من سياسي إلى اقتصادي.
لكن ذلك يثير أسئلة جوهرية من قَبيل: هل يتحقق الاستقرار حين تصبح دولة بحجم مصر معتمدة جزئياً على مصدر طاقة خارجي ذي حساسية سياسية، أم أن الاتفاق يعمّق علاقات تبعية اقتصادية قد تتحول إلى أدوات ضغط في أوقات الأزمات؟
وكان مشروع “منتدى غاز شرق المتوسط” يطمح إلى بناء منظومة تعاونية متعددة الأطراف، لكن الواقع الحالي يشير إلى تراجع الأدوار الجماعية وصعود الاتفاقات الثنائية وهيمنة الشركات الكبرى، وعلى رأسها شيفرون الأمريكية.
وفي هذا السياق، تميل مصر من “مركز توزيع” إلى مستهلك كبير ومُسيّل للغاز الإسرائيلي، بينما تعزز إسرائيل موقعها كمصدر رئيسي، في معادلة تعكس اختلالاً متزايداً في توازن القوة الطاقوية وفق التحليلات التي تابعها بقش.
والنتائج الاقتصادية المتوقعة بالنسبة لمصر، تتمثل في تخفيف فوري لأزمة الطاقة، وتقليل فاتورة استيراد الغاز المسال، واستقرار نسبي في إنتاج الكهرباء، لكن مقابل التزام طويل الأجل قد يحد من خيارات المناورة المستقبلية.
أما إسرائيل فتضمن تدفقات مالية ضخمة، وزيادة الثقة الاستثمارية، وتعزيز النفوذ الإقليمي.
ويبدو الاتفاق اقتصادياً بوجه سياسي، ويعكس فشل بعض الرهانات السابقة، ونجاح رهانات أخرى، ويؤكد أن الغاز بات لغة جديدة للعلاقات الدولية في المنطقة.
ويبقى السؤال هو: هل يُنتج هذا الاتفاق استقراراً طويل الأمد، أم يؤسس لاعتماد متبادل غير متكافئ، سرعان ما تتحول فيه الطاقة من نعمة اقتصادية إلى ورقة ضغط سياسية؟ ولن يُحسم ذلك بالأرقام وحدها، بل بتقلبات السياسة، وأسواق الطاقة، وما يحمله المستقبل القريب لشرق المتوسط.


