صندوق النقد يحذر مصر من التسرع في خفض الفائدة وسط ضبابية عالمية ومخاوف من عبء الديون المتفاقم

وجه صندوق النقد الدولي تحذيراً واضحاً إلى مصر بضرورة توخي أقصى درجات الحذر في مسار سياستها النقدية، لا سيما فيما يتعلق بأي تخفيضات إضافية لأسعار الفائدة، وذلك في ظل مناخ عالمي تكتنفه حالة من عدم اليقين المتزايد، تفاقمت بفعل القرارات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن فرض رسوم جمركية واسعة النطاق.
وكان البنك المركزي المصري قد أقدم الشهر الماضي (أبريل 2025) على خطوة لافتة بخفض أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 225 نقطة أساس لتصل إلى 25%، وذلك للمرة الأولى منذ ما يقرب من خمس سنوات. جاء هذا القرار بعد انحسار ملحوظ في معدل التضخم السنوي الذي تراجع إلى 13.6%، أي أقل من نصف الذروة التاريخية التي كان قد بلغها في سبتمبر 2023. وعلى الرغم من أن قرارات ترامب الجمركية دفعت بعض المحللين لتعديل توقعاتهم، لا يزال كثيرون يرون أن البنك المركزي قد يتجه نحو دورة تيسير نقدي قوية خلال العام الجاري، متوقعين خفضاً مجمعاً يتراوح بين 600 و 800 نقطة أساس خلال عام 2025.
لكن صندوق النقد الدولي، عبر جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، دعا إلى التريث الشديد. وقال أزعور في مقابلة أُجريت معه في واشنطن: “من المهم للغاية التحلي باليقظة في إدارة السياسة النقدية”. وأضاف: “في ظل الصدمات الحالية (في إشارة للتوترات التجارية والجيوسياسية)، نرى مخاطر بعودة التضخم، ولذلك من الضروري الحفاظ على سياسة صحيحة تؤدي إلى خفض التضخم إلى مستويات مستقرة من خانة واحدة”.
معركة التضخم.. وسياسات التقشف المؤلمة
شكل ترويض التضخم الجامح هدفاً محورياً لحكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي وصناع السياسة النقدية في مصر خلال العامين الماضيين. ولتحقيق ذلك وتأمين تمويل خارجي ضخم لإنهاء أزمة اقتصادية خانقة ونقص حاد في العملة الأجنبية، اتخذت السلطات المصرية سلسلة من الإجراءات الصعبة، شملت السماح للجنيه المصري بفقدان أكثر من 40% من قيمته مقابل الدولار خلال العام الذي سبق الخفض الأخير للفائدة، ورفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية في مارس 2024 بالتزامن مع تعويم مدار للعملة، بالإضافة إلى رفع أسعار الوقود والكهرباء وسلع أساسية أخرى. وقد تكللت هذه الجهود بالحصول على حزمة إنقاذ مالية ضخمة قادتها دولة الإمارات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، جلبت لمصر دعماً مالياً بنحو 57 مليار دولار.
وكانت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي قد أشارت، عند خفضها للفائدة الشهر الماضي، إلى أنها تتوقع استمرار تراجع التضخم خلال العامين الجاري والمقبل، ولكن بوتيرة أبطأ مما شوهد في الربع الأول من 2025. لكنها أقرت بوجود مخاطر صعودية قد تعرقل هذا المسار، وذكرت تحديداً “الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وتصاعد النزاعات الجيوسياسية الإقليمية”، وهي نفس المخاطر التي يبدو أن صندوق النقد يركز عليها في تحذيراته الأخيرة.
الاقتصاد المصري وسياسات الاقتراض المحفوفة بالمخاطر
تأتي تحذيرات صندوق النقد في وقت يواجه فيه الاقتصاد المصري تحديات هيكلية عميقة تتجاوز مجرد معدلات التضخم والفائدة. فعلى مدى العقد الماضي، اعتمدت مصر بشكل متزايد على نموذج اقتصادي يرتكز بقوة على الاقتراض الخارجي المكثف، سواء من صندوق النقد نفسه أو من دول الخليج أو عبر إصدار السندات في الأسواق الدولية. وبينما تم توجيه جزء من هذه الأموال لتمويل مشروعات بنية تحتية ضخمة، يرى نقاد أن هذا النموذج أدى إلى إهمال نسبي للإصلاحات الهيكلية اللازمة لتعزيز القطاعات الإنتاجية الحقيقية، مثل الصناعة والزراعة الموجهة للتصدير، والتي يمكن أن توفر تدفقات مستدامة من العملة الصعبة. حزمة الإنقاذ الأخيرة البالغة 57 مليار دولار، وإن كانت ضرورية لتجنب أزمة سيولة فورية، إلا أنها تبدو استمراراً لنفس النهج المعتمد على الديون الخارجية.
وقد ترتب على هذا الاعتماد المفرط على الاقتراض ارتفاع صاروخي في حجم الدين الخارجي لمصر، والذي بات يستهلك نسبة متزايدة من إيرادات الموازنة العامة للدولة لخدمة أقساط وفوائد هذه الديون. هذا العبء المالي الضخم يجعل الاقتصاد المصري شديد الهشاشة وعرضة للصدمات الخارجية، سواء كانت ارتفاعاً في أسعار الفائدة العالمية، أو تباطؤاً في النمو العالمي، أو تغيراً في شهية المستثمرين تجاه الأسواق الناشئة، أو تقلبات في أسعار الصرف. كما أن الإجراءات التقشفية المصاحبة غالباً لبرامج الاقتراض، مثل رفع الدعم وزيادة الضرائب، تلقي بعبء إضافي على كاهل المواطنين، خاصة الفئات الأكثر ضعفاً.
إن هذا الوضع يضع قيوداً كبيرة على قدرة البنك المركزي المصري على المناورة بسياسته النقدية. فالحاجة الماسة لجذب التدفقات الأجنبية (“الأموال الساخنة”) لتمويل عجز الحساب الجاري ودعم استقرار سعر الصرف، تجبر البنك المركزي على الإبقاء على أسعار فائدة حقيقية مرتفعة (سعر الفائدة الاسمي مخصوماً منه معدل التضخم)، والتي لا تزال، رغم الخفض الأخير، من بين الأعلى عالمياً عند نحو 11.5%. هذه الفائدة المرتفعة، وإن كانت تجذب المستثمرين الأجانب الباحثين عن عائد سريع، إلا أنها في المقابل ترفع تكلفة الاقتراض المحلي وتثبط الاستثمار المنتج الذي يحتاجه الاقتصاد لخلق فرص عمل وتحقيق نمو مستدام. خروج أكثر من مليار دولار من التدفقات الأجنبية في أبريل الماضي، وفق تقديرات جولدمان ساكس، بمجرد إعلان ترامب عن رسومه الجمركية، يؤكد مدى حساسية هذه التدفقات للتقلبات العالمية.
لذلك، يثير النهج المصري تساؤلات جوهرية حول استدامته على المدى الطويل. هل تنجح مصر في استخدام الدعم المالي الأخير كجسر نحو إصلاحات هيكلية حقيقية تعزز الإنتاجية والصادرات وتقلل الاعتماد على الخارج؟ أم أنها مجرد دورة جديدة من الاقتراض لتأجيل أزمة أعمق قد تندلع عندما تتغير الظروف الخارجية أو يتضاءل الدعم الجيوسياسي؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد المسار المستقبلي للاقتصاد المصري، وتتطلب تحولاً حقيقياً نحو نموذج تنموي أكثر استدامة يعتمد على الإنتاج المحلي والاستثمار الخاص بدلاً من الدوران في حلقة الديون.
دعوة للتروي وحساسية الأسواق
عزز محمد معيط، المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي للدول العربية وجزر المالديف (والذي شغل منصب وزير المالية المصري حتى العام الماضي)، دعوة الصندوق إلى التروي. وقال معيط في مقابلة بواشنطن: “في ظل الوضع العالمي والإقليمي الراهن، يجب أن تكون حذراً للغاية. وعليك أن تتأكد تماماً من صواب القرار قبل اتخاذه، استناداً إلى البيانات والتحليلات والمعلومات. لا يمكنك اتخاذ قرار ثم التراجع عنه لاحقاً”.
وتأتي هذه التحذيرات في وقت أظهر فيه السوق المصري حساسية واضحة للتطورات العالمية الأخيرة. فقد سجل الجنيه المصري أدنى مستوياته التاريخية لفترة وجيزة في أعقاب إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية الجديدة، قبل أن يقلص بعض خسائره، مما يعكس قلق المستثمرين من تداعيات الحرب التجارية على الاقتصادات الناشئة. وتجدر الإشارة إلى أن مصر تخضع حاليًا للحد الأدنى من الرسوم الجمركية الأمريكية، والمقدرة بـ 10%.
ويبقى صانعو السياسة النقدية في مصر أمام معادلة صعبة، حيث يتعين عليهم الموازنة بين الحاجة إلى دعم النشاط الاقتصادي عبر خفض تكلفة الاقتراض، وبين ضرورة الحفاظ على جاذبية السوق المصري للمستثمرين الأجانب وكبح جماح أي ضغوط تضخمية جديدة قد تنشأ عن التقلبات العالمية أو المحلية، وكل ذلك في ظل عبء ديون متزايد يتطلب إدارة حذرة للموارد المالية الشحيحة.