صندوق النقد يحذر من اختلالات اقتصادية عالمية تتفاقم في عهد ترامب بسبب الرسوم الجمركية

الاقتصاد العالمي | بقش
في تقريره السنوي لتقييم القطاعات الخارجية لأكبر اقتصادات العالم، حذر صندوق النقد الدولي من تفاقم خطير في اختلالات الحسابات الجارية على مستوى الاقتصاد العالمي، محذراً من أن السياسات الاقتصادية التي تتبعها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، وعلى رأسها تصعيد الرسوم الجمركية ضد الشركاء التجاريين الرئيسيين، لا تسهم في إصلاح هذا الخلل، بل تضاعف من مخاطره وآثاره المتشابكة.
وبحسب قراءة بقش، أشار التقرير إلى أن موازين الحساب الجاري اتسعت بمقدار 0.6 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال عام 2024، وهو ما يُعد الارتفاع الأكبر منذ أكثر من عقد.
هذا الاتساع، بحسب صندوق النقد، يرتبط إلى حد كبير بتشوهات تجارية “مفرطة” وغير منسجمة مع أسس الاقتصاد الحقيقي، ناتجة عن تحولات في السياسات الداخلية لاقتصادات كبرى مثل الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو.
وأكد الصندوق أن الرسوم الجمركية التي أعادت إدارة ترامب فرضها مؤخراً على الصين والاتحاد الأوروبي ومجموعة من الدول الأخرى، لم تنجح في تحقيق توازن تجاري فعلي، بل قلّصت من معدلات الادخار والاستثمار داخل أمريكا نفسها، دون أن تحدث تحولاً ملموساً في الحسابات الجارية الأمريكية.
الحواجز التجارية تفشل في معالجة الخلل وتزيد من هشاشة النظام
يحذر صندوق النقد من أن الاختلالات الحالية لا يمكن تصحيحها عبر الأدوات الجمركية، بل تتطلب مراجعة أعمق في السياسات الاقتصادية الوطنية. فبينما تبرر إدارة ترامب هذه الرسوم بأنها آلية للدفاع عن الصناعة الوطنية، فإن التحليل الاقتصادي يظهر أن النتائج كانت سلبية في كثير من الحالات: أسعار أعلى للمستهلك الأمريكي، تباطؤ في الاستثمار الصناعي، وتراجع في مرونة سلاسل الإمداد العالمية.
ورغم جهود الصين لتعزيز الطلب المحلي، ودفع منطقة اليورو لمزيد من الإنفاق الاستثماري، فإن المخاطر لا تزال “منحازة بشكل واضح إلى الجانب السلبي”، كما يشير الصندوق، لا سيما مع استمرار العجز المالي الأمريكي في الارتفاع وتوسّع الفجوة بين الإنفاق الحكومي والإيرادات.
يؤكد الصندوق كذلك أن هذه الزيادة الكبيرة في الاختلالات قد تمثل تحوّلاً بنيوياً في النظام العالمي، يشابه ما حدث قبيل الأزمة المالية العالمية عام 2008، محذراً من أن الانزلاق إلى حروب تجارية مفتوحة سيقوّض أسس التعاون الاقتصادي العالمي ويفتح الباب أمام اضطرابات واسعة النطاق.
التأثيرات الاقتصادية للرسوم على الشركاء الكبار
من جانب آخر، تسببت سياسات ترامب الجمركية في إحداث ضرر مباشر على اقتصادات رئيسية مثل الصين، الاتحاد الأوروبي، كندا، والمكسيك، فقد سجلت الصين، على سبيل المثال، انخفاضاً في صادراتها إلى الولايات المتحدة بنسبة فاقت 15% مقارنة بفترة ما قبل الحرب التجارية، واضطرت إلى تغيير خارطة صادراتها نحو دول مثل روسيا والبرازيل.
ووفق بيانات منظمة التجارة العالمية، تراجعت صادرات السلع التكنولوجية العالية من الصين بنسبة ملحوظة نتيجة الرسوم الأمريكية الجديدة.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد ردّ بخطط لفرض رسوم جمركية انتقامية على صادرات أمريكية بقيمة 72 مليار يورو، تستهدف قطاعات حيوية مثل الطائرات الأمريكية، السيارات، والويسكي، ويشمل الرد الأوروبي أيضاً قيوداً على وصول الشركات الأمريكية إلى المناقصات والعقود العامة داخل التكتل، بالإضافة إلى تفعيل “أداة مكافحة الإكراه” الأوروبية – وهي أقوى آلية ردع تجارية تملكها بروكسل – للرد على الإجراءات الأمريكية التي تصنَّف كمحاولات ضغط سيادي على سياسات الاتحاد الداخلية.
كندا والمكسيك لم تسلما من الضرر، حيث واجهتا فرض رسوم على الصلب والألمنيوم، وردّت كندا بفرض تعريفات متبادلة على سلع أمريكية بقيمة 12.6 مليار دولار، أما المكسيك، التي تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية، فقد تأثرت صادراتها الزراعية والميكانيكية بشدة، وواجهت اضطرابات في الإنتاج وسلاسل التوريد أدت إلى انخفاض معدلات النمو بنسبة تقارب 1.5% خلال عام 2024، بحسب معهد بروكينغز.
الاقتصاد العالمي يدفع الثمن… وصندوق النقد يدعو إلى تنسيق السياسات
بالرغم من محاولات واشنطن تصوير السياسات الحمائية كمحرك لتعافي الاقتصاد، فإن الواقع الدولي يعكس العكس تماماً.
فقد تسببت الرسوم في تباطؤ معدلات التجارة العالمية، وتراجع تدفقات الاستثمار، وأدت إلى تغيّر في سلوك الدول الكبرى نحو الانغلاق الاقتصادي، وهو ما يضعف النظام التجاري متعدد الأطراف ويُفقده توازنه المؤسساتي.
صندوق النقد دعا إلى العودة لنهج الإصلاحات الهيكلية، مؤكداً أن معالجة اختلالات الحساب الجاري تتطلب إجراءات مثل تقليص العجز المالي الأمريكي، تشجيع الادخار الداخلي، وتحسين الإنتاجية بدلاً من فرض حواجز تجارية.
كما نادى بإعادة إحياء روح التعاون الاقتصادي بين الدول الكبرى لمواجهة التحديات المشتركة مثل تغير المناخ، التوترات الجيوسياسية، وأمن الطاقة.
بين التصعيد الجمركي وضرورة العقلانية الاقتصادية
في ظل استمرار إدارة الرئيس ترامب في تبني سياسة قائمة على الرسوم الجمركية كأداة تفاوض وتوجيه اقتصادي، وبينما تستعد الدول الكبرى للرد بالمثل، يبدو الاقتصاد العالمي مهدداً بدخول مرحلة جديدة من عدم الاستقرار.
وبينما تتعدد الأصوات التي تنادي بحماية الصناعات المحلية، إلا أن الخبراء متفقون: التصعيد التجاري ليس حلاً طويل الأمد، بل مسكّن اقتصادي محفوف بالمخاطر.
صندوق النقد يوجه تحذيره الأخير بوضوح: المسألة لم تعد اقتصادية فقط، بل تتعلّق بمستقبل النظام التجاري العالمي برمّته، وبقدرة الدول على تجنّب انزلاق جديد نحو أزمة اقتصادية أكثر تعقيداً مما شهده العالم في 2008، فهل تستمع الدول الكبرى؟ الأيام القادمة وحدها تحمل الجواب.