طموحات «رؤية 2030» تصطدم بتقلبات النفط… السعودية أمام اختبار مالي غير مسبوق

الاقتصاد العربي |بقش
مع تراجع أسعار النفط العالمية بوتيرة حادة وتزايد حجم الإنفاق الحكومي، تجد المملكة العربية السعودية نفسها أمام تحدٍ مالي غير مسبوق منذ إطلاق «رؤية 2030». فوفق تحذيرات اطلع عليها مرصد بقش صادرة عن وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، تتجه الرياض نحو عجز مالي أكبر بكثير مما كان متوقعاً، ما يضع خططها الاقتصادية الطموحة تحت ضغط الواقع المالي المتقلب.
تشير البيانات الرسمية إلى أن العجز المتوقع في الموازنة لعام 2025 سيرتفع إلى ما يعادل 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب ضعف التقديرات الأولية البالغة 2.3%. ويعزى هذا التدهور بالأساس إلى تراجع العائدات النفطية، التي لا تزال تمثل مصدر الدخل الرئيسي للمملكة، مقابل نمو محدود في الإيرادات غير النفطية لا يكفي لسد الفجوة المتزايدة.
ويأتي هذا التطور في وقت تتواصل فيه عمليات الإنفاق الحكومي بوتيرة مرتفعة لتمويل مشروعات عملاقة، مثل «نيوم» ومشاريع البنية التحتية المصاحبة لها، والتي تُعد جزءاً جوهرياً من خطط التحول الاقتصادي.
توتر بين الانضباط المالي والإنفاق الاستثماري
بيان ما قبل الموازنة الصادر عن الحكومة السعودية هذا الأسبوع حمل رسائل واضحة عن التوجه نحو «انضباط مالي» أكثر صرامة في المرحلة المقبلة. لكن وكالة فيتش ترى أن هناك فجوة متزايدة بين هذا التوجه المعلن وبين الواقع العملي، إذ ما تزال الدولة تضخ استثمارات هائلة عبر صندوق الاستثمارات العامة، الذي تُقدّر أجندته الاستثمارية بأكثر من تريليون دولار ضمن رؤية 2030.
هذا التباين بين الخطاب والسياسات الفعلية حسب قراءة بقش يعكس معضلة هيكلية: فمن جهة، تحتاج المملكة إلى طمأنة الأسواق بشأن قدرتها على السيطرة على العجز وضمان الاستدامة المالية، ومن جهة أخرى، فإن أي تقليص جوهري للإنفاق الاستثماري قد يهدد زخم المشاريع التي تُعوّل عليها الحكومة في تحقيق التحول الاقتصادي بعيداً عن النفط.
وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، تصبح الأسعار العالمية للنفط عاملاً حاسماً في توازن المعادلة، إذ لا تزال الميزانية السعودية تعتمد اعتماداً جوهرياً على إيرادات النفط رغم برامج التنويع الاقتصادي الجارية.
سوق النفط: خيارات صعبة وتذبذبات حادة
التطورات الأخيرة في سوق النفط العالمية تضيف بعداً آخر للتحدي المالي. فقد هبط سعر خام برنت بأكثر من 7% هذا الأسبوع وسط تكهنات بزيادات إضافية في إنتاج تحالف «أوبك+»، مع تباينات في المواقف بين السعودية وروسيا بشأن الحصص الإنتاجية المستقبلية.
تشير تسريبات إلى أن الرياض تضغط من أجل زيادة أكبر في إنتاجها مقارنة بموسكو، في محاولة لاستعادة حصة سوقية أوسع في الأسواق العالمية. هذه الاستراتيجية قد تُعزز النفوذ السعودي على المدى الطويل، لكنها تحمل في الوقت نفسه خطر دفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض على المدى القصير، ما قد يُعمّق الضغوط المالية على الموازنة.
ورغم أن منظمة أوبك سارعت إلى نفي صحة التقارير التي تحدثت عن زيادة قدرها نصف مليون برميل يومياً وفق متابعات بقش، إلا أن الجدل بحد ذاته يعكس هشاشة التوازن الحالي في السوق، وحساسية المالية السعودية لأي تحركات مفاجئة في أسعار الخام.
الاعتماد على النفط… معضلة لم تُكسر بعد
رغم مرور قرابة عقد على إطلاق رؤية 2030، لم تنجح المملكة بعد في تقليص اعتمادها المالي على النفط بدرجة جوهرية. فالإيرادات غير النفطية شهدت نمواً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال غير قادرة على تعويض أي تراجع كبير في عائدات النفط.
وترى وكالة فيتش أن تحقيق التوازن المالي سيتطلب مزيجاً دقيقاً من الإجراءات: ضبط تدريجي للإنفاق العام، واستقراراً مستداماً في عائدات النفط، إلى جانب توسيع قاعدة الدخل غير النفطي. غير أن أي اختلال في هذه العناصر الثلاثة قد يؤدي إلى تفاقم العجز وتزايد الضغوط التمويلية على المدى المتوسط.
ويعني ذلك أن الموازنة السعودية لا تزال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورات سوق النفط العالمية، وأن تقلب الأسعار يبقى العامل الأكثر تأثيراً في تحديد ملامح السياسة المالية خلال السنوات القليلة المقبلة.
تكشف التطورات الراهنة أن السعودية تواجه اختباراً مزدوجاً يتمثل في تنفيذ خطط تنموية ضخمة تتطلب تمويلاً غير مسبوق، وفي الوقت نفسه التعامل مع واقع نفطي متقلب لا يمنحها هامشاً واسعاً للمناورة. وبينما تراهن الحكومة على عوائد طويلة المدى من مشاريعها الكبرى، فإن التحدي المباشر يكمن في الحفاظ على استقرار مالي وسط بيئة خارجية لا يمكن التحكم بها.
تحذيرات وكالة فيتش ليست مجرد تقييم ائتماني، بل إشارة واضحة إلى أن نموذج الإنفاق المرتفع الممول من النفط لم يعد محصنًا كما كان في السابق. وإذا استمرت الأسعار في التراجع لفترة ممتدة، قد تجد الرياض نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرارات مالية أكثر حدة، سواء عبر تقليص النفقات أو مراجعة أولويات الاستثمار، لتفادي تفاقم العجز وتآكل الاحتياطيات المالية.