
تقارير | بقش
لم يعد ميناء إيلات مجرد منشأة لوجستية متعثرة بفعل ظروف سوقية أو تنافسية، بل تحوّل إلى أحد أبرز ضحايا التحولات الجيوسياسية في البحر الأحمر، بعد أن تسببت عمليات قوات صنعاء في تعطيل فعلي لحركة الملاحة المرتبطة بإسرائيل عبر مضيق باب المندب. هذا التحول لم يقتصر على رفع كلفة الشحن أو التأمين، بل ضرب الأساس الاقتصادي للميناء، الذي فقد الجزء الأكبر من نشاطه خلال العامين الماضيين.
انخفاض إيرادات الميناء بنحو 80% وفق تتبُّع “بقش” لم يكن نتيجة قرارات إدارية أو تراجع الطلب، بل حصيلة مباشرة لواقع أمني فرضته الهجمات البحرية والحصار غير المعلن، والذي أجبر شركات الشحن ومستوردي السيارات على تحويل مساراتهم إلى موانئ البحر المتوسط، رغم كلفتها الأعلى وتعقيداتها التشغيلية.
بهذا المعنى، لم تكن أزمة إيلات داخلية، بل انعكاساً مباشراً لتغيّر ميزان السيطرة في أحد أهم شرايين التجارة الإقليمية.
الأثر لم يقتصر على الحسابات المالية للميناء، بل امتد إلى مدينة إيلات نفسها، التي تعتمد بشكل كبير على نشاطه كمصدر وظائف ودخل. ومع تراكم الديون المستحقة للدولة والبلدية، بات الميناء رمزاً لفشل إسرائيل في تحييد جبهتها الاقتصادية الجنوبية عن تداعيات الحرب الإقليمية.
في هذا السياق، تبرز محاولات إنعاش الميناء ليس كمشروع تطوير طبيعي، بل كمسعى اضطراري للالتفاف على واقع فرضته قوات صنعاء، في وقت لم تفلح فيه إسرائيل ولا حلفاؤها في إعادة تأمين خطوط الملاحة كما كانت قبل الحرب.
خطة “الذراع البحري”: محاولة التفاف على الجغرافيا السياسية
قرر الأخوان نكاش، مالكا امتياز ميناء إيلات، التوجه نحو استئجار أو شراء سفن “رورو” لنقل السيارات بأنفسهم من الشرق الأقصى، وهو قرار يعكس إدراكاً متأخراً بأن الميناء لم يعد قادراً على الاعتماد على شبكات الشحن التقليدية وفق اطلاع بقش. فبدلاً من انتظار عودة الشركات العالمية، اختار المالكون لعب دور شركة شحن مستقلة، في محاولة لكسر العزلة المفروضة بحكم الواقع.
الخطة تقوم على تشغيل سفينتين بسعة تصل إلى 5000 مركبة لكل منهما، مع تحمل كلفة استئجار يومية مرتفعة، ورحلات طويلة قد تمتد إلى 50 يوماً.
هذه الأرقام وحدها تكشف أن المشروع لا يهدف إلى تحقيق ربح سريع، بقدر ما يسعى إلى إثبات “قابلية التشغيل” أمام الحكومة الإسرائيلية، في لحظة سياسية حساسة مرتبطة بتمديد الامتياز.
غير أن هذه المقاربة تصطدم بعقبة جوهرية، تتمثل في استمرار المخاطر الأمنية والتأمينية المرتبطة بالملاحة في البحر الأحمر. فحتى لو نجحت السفن في الوصول، فإن كلفة التأمين، واحتمالات التعطيل، ستظل مرتبطة مباشرة بقدرة إسرائيل على تحييد عمليات قوات صنعاء، وهو أمر لم يتحقق حتى الآن رغم الضربات والتحالفات.
بذلك، تبدو الخطة أقرب إلى مناورة سياسية واقتصادية لكسب الوقت، لا إلى حل بنيوي يعالج أصل الأزمة، أي فقدان السيطرة الآمنة على المسار البحري الجنوبي.
تحميل المستهلك كلفة الفشل الجيوسياسي
تحاول إدارة ميناء إيلات تسويق الأزمة بوصفها “مشكلة وطنية” تمس كل مستهلك إسرائيلي، عبر التركيز على ازدحام موانئ أشدود وحيفا، وارتفاع كلفة التخزين والنقل، وتأخير تفريغ بضائع أخرى. غير أن هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أن هذه الكلفة ليست قدراً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة لسياسات إسرائيل العسكرية والإقليمية.
تحميل المستهلك النهائي فارق الكلفة، سواء عبر أسعار السيارات أو السلع الأخرى، يعكس انتقال ثمن المواجهة البحرية من المستوى العسكري إلى الجيب المدني. فبدلاً من معالجة أسباب العزلة، يجري البحث عن آليات لتوزيع الخسائر داخلياً، أو حتى طلب دعم حكومي مباشر لتغطية الفارق السعري.
المقترحات التي طُرحت سابقاً، مثل إلزام مستوردي السيارات باستخدام ميناء إيلات أو تقاسم كلفة النقل بين الدولة والميناء والمستوردين، تكشف أن الحلول المطروحة تقوم على تدخل قسري في السوق، لا على استعادة شروط المنافسة الطبيعية. ومع فشل هذه المقترحات في اللجنة المالية، يتضح أن الدولة نفسها غير مستعدة لتحمل كلفة إنقاذ الميناء بالكامل.
هذا المشهد يعكس مفارقة لافتة: ميناء يُقدَّم كأصل استراتيجي، لكنه يُترك عملياً لمواجهة نتائج خيارات سياسية وعسكرية لم يكن طرفاً في صنعها.
لا يمكن فصل التوقيت الحالي لهذه التحركات عن اقتراب موعد حسم قرار تمديد امتياز تشغيل الميناء لعشر سنوات إضافية. فالأخوان نكاش، اللذان استفادا لسنوات من تشغيل الميناء في ظروف مستقرة، يجدان نفسيهما اليوم أمام اختبار سياسي لا يقل أهمية عن الاختبار الاقتصادي.
إيداع ضمان بقيمة 105 ملايين شيكل، وطلب تأجيل القرار لثلاثة أشهر، يعكسان محاولة واضحة لربط مستقبل الميناء بمسار تفاوضي مع الدولة، يتضمن التنازل عن المطالبة بتعويضات الحرب مقابل تمديد الامتياز حسب قراءة بقش. هذا الطرح يكشف حجم الخسائر التي تكبدها الميناء، لكنه يكشف أيضاً حدود استعداد الدولة للاعتراف بمسؤوليتها.
في الخلفية، تلوح مشاريع كبرى مثل “ميناء القناة” وسكة حديد السلام، التي تُقدَّم كحلول مستقبلية لدمج إسرائيل في شبكات إقليمية أوسع. غير أن هذه المشاريع نفسها تفترض بيئة إقليمية مستقرة، وهو افتراض يتناقض مع واقع البحر الأحمر اليوم.
من هنا، يبدو أن الرهان الحقيقي للأخوان نكاش ليس فقط إعادة تشغيل الميناء، بل تثبيت موقعهما في أي ترتيبات مستقبلية، حتى لو بقي ميناء إيلات الحالي يعمل بأقل من طاقته لفترة طويلة.
أزمة ميناء إيلات ليست أزمة إدارة أو نموذج أعمال، بل نتيجة مباشرة لتحول البحر الأحمر إلى ساحة ضغط فعالة بيد قوات صنعاء، نجحت في تعطيل أحد أهم المنافذ الاقتصادية الإسرائيلية دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة. الخسائر المالية، وانخفاض الإيرادات، وتراكم الديون، كلها تعكس عجز إسرائيل عن حماية مصالحها الاقتصادية الجنوبية رغم تفوقها العسكري التقليدي.
محاولات الالتفاف عبر إنشاء ذراع شحن مستقلة تكشف حجم القلق أكثر مما تعكس ثقة بالحل، بينما يبقى أصل المشكلة قائماً: ممر بحري لم يعد آمناً، وميناء فقد ميزته الاستراتيجية.
في المحصلة، يقدّم ميناء إيلات مثالاً صارخاً على كيف يمكن لصراع غير متماثل أن يُترجم إلى خسائر اقتصادية عميقة، ويحوّل منشأة سيادية إلى عبء تفاوضي، في وقت تتآكل فيه قدرة إسرائيل على فرض معادلاتها خارج نطاق القوة العسكرية المباشرة.


