
تقارير | بقش
قدمت بكين مقترحاً طموحاً خلال محادثات رفيعة المستوى يدعو إلى تراجع واشنطن عن قيود تبررها مخاوف الأمن القومي على بعض الصفقات والاستثمارات، مقابل حزمة استثمارية قد تصل إلى تريليون دولار على الأقل، كما طالبت الصين بخفض الرسوم الجمركية الأمريكية على المدخلات المستوردة من ثاني أكبر اقتصاد في العالم، التي ستُستخدم في أي مصانع صينية تُبنى في أمريكا.
وفي حال تم التوافق على شكل ما من هذا النوع فإنه سيشكل انقلاباً في نهج إدارة الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة تجاه الاستثمار الصيني المباشر، وسيضع واشنطن أمام مفاضلة استراتيجية بين زيادة التدفقات الرأسمالية وتعزيز رقابتها الأمنية.
وعرضت الصين خلال محادثات جرت في مدريد حزمة استثمارية ضخمة تشمل مطالباً بتخفيف القيود الأمنية والجمركية على مدخلات تُستخدم في مصانع صينية تُقام داخل الولايات المتحدة، كما جرى نقاش إطار لاستمرار عمل تطبيقات مثل “تيك توك” داخل السوق الأمريكية تحت شروط رقابية.
وتُقارَن قيمة هذا العرض مع التزامات أخرى حالية قُدّمت لأمريكا، إذ تعهّد الاتحاد الأوروبي باستثمار إضافي نحو 600 مليار دولار في الولايات المتحدة حتى 2028، واليابان تعهّدت بنحو 550 مليار دولار تحت اتفاقيات تجارية حديثة، وكوريا الجنوبية تجري محادثات لتعهدات كبيرة تبلغ 350 مليار دولار، وتُعد هذه الالتزامات جزءاً من محاولة إدارة ترامب لجذب رأس المال الأجنبي لإعادة بناء قطاعات صناعية.
وقد تدهور التدفق الفعلي للاستثمار الصيني إلى الولايات المتحدة بدرجة كبيرة منذ الذروة في 2016، حيث بلغ أعلى مستوى عند قرابة 57 مليار دولار ثم تراجع إلى مستوى 2.1 مليار دولار فقط في النصف الأول من 2025، مما يوضح أن العرض الحالي يشكل محاولة لإحياء تواجد صيني متراجع.
دوافع بكين
تسعى الصين إلى تخفيف القيود التشغيلية والجمركية، ووصول شبكات الإنتاج العالمية إلى سوق الولايات المتحدة، وتريد مدخلات أرخص لمصانع تابعة لشركاتها أو مشاريع مشتركة تُقام على الأراضي الأمريكية.
كما تريد تخفيف ضغط الركود المحلي والتوسع الخارجي، فاقتصاد الصين يواجه تباطؤاً في الطلب المحلي في بعض القطاعات، وفتحُ الأسواق الخارجية وخلق مرافق إنتاجية في أمريكا يساعد الشركات الصينية على تنويع المبيعات والتخفيف من الفائض الصناعي.
ويعزز الاستثمار بقيمة تريليون دولار من النفوذ الاقتصادي لبكين، ويتيح لبكين أدوات تأثير من وظائف وسلاسل توريد وعلاقات حكومية.
وحول القيود الأمريكية، تشير مراجعة بقش إلى أن واشنطن طورت أدوات قوية لمراجعة الصفقات الأجنبية في قطاعات حساسة مثل الرقائق والاتصالات والذكاء الاصطناعي والبنى التحتية، وأعاقت هذه الأُطر صفقات صينية سابقة أو أجبرت على بيع أصول، وستواجه أي صفقة ضخمة مراجعات فيدرالية ومقاومةً من بعض الولايات التي تفرض قيوداً خاصة.
في المقابل يُنظر إلى العرض على أنه قد يفرض زيادة للنفوذ الاقتصادي الصيني لتمرير مكاسب جيوسياسية، مثل الضغط على سياسات تتعلق بتايوان وسلاسل التوريد أو قواعد التجارة.
وقد تحدث معارضة من الكونغرس وحكومات الولايات وجماعات الضغط الصناعية التي قد تعرقل أو تشوه أي اتفاق.
وبنفس الوقت، ثمة مكاسب أمريكية من هذا العرض، مثل تسريع إعادة إحياء الصناعة الأمريكية عبر رأس مال خارجي يسرّع مشاريع بنية تحتية وتصنيع إذا أُحكمت الضمانات والحوكمة، وكذلك تنويع سلاسل التوريد وإدخال تقنيات واستثمارات تؤدي لفرص عمل ونقل مهارات إذا كانت الصيغ شفافة وتخضع لرقابة تشاركية.
وقد ترفض واشنطن تخفيف القيود الأمنية، وتواصل بعض الولايات فرض القيود المحلية، والنتيجة هي استمرار الاستثمارات الصينية “محدودة”، وبالتالي سحب بكين للعرض، أو إعادة توجيهه نحو أوروبا وآسيا.
ويُلوّح سيناريو “اتفاق واسع” مع تنازلات جيوسياسية، وهو سيناريو مؤثر يقتضي قبول الاستثمارات الضخمة مقابل تخفيف نوعي في مواقف أمريكية تجاه ملفات إقليمية، مما يعيد تشكيل تحالفات وخريطة النفوذ الاقتصادي.
اختبار الأولويات الأمريكية
يمثل العرض الصيني الأخير باستثمار يفوق تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي لحظة مفصلية في مسار العلاقات الاقتصادية بين القوتين الأكبر في العالم، إذ يشكل مناورة استراتيجية متقنة تهدف إلى إعادة صياغة قواعد التفاعل بين بكين وواشنطن بعد عقد من الشكوك والقيود المتبادلة.
فالصين، التي تواجه تباطؤاً اقتصادياً داخلياً وتراجعاً في الطلب المحلي، ترى في الأسواق الأمريكية متنفساً لإنعاش صناعاتها الكبرى وتوسيع حضورها في قلب الاقتصاد العالمي، بينما يدرك ترامب أن تدفق هذا الحجم من الاستثمارات يمكن أن يُستخدم كورقة سياسية واقتصادية لتغذية شعار “أمريكا أولاً” وتحقيق نمو سريع في الوظائف والبنى التحتية.
لكن العرض الصيني يختبر حدود الأمن القومي الأمريكي قبل أن يختبر شهية السوق وفق قراءة بقش، فالولايات المتحدة التي بنت منظومة صارمة لحماية صناعاتها الحساسة من الاختراقات التقنية، تجد نفسها اليوم أمام إغراء مالي غير مسبوق يصعب رفضه بالكامل، وفي الوقت ذاته يصعب قبوله دون تنازلات أمنية أو سياسية.
ولا يدور النقاش حول هذا العرض في أروقة البيت الأبيض، بل يمتد إلى الكونغرس ووكالات الاستخبارات ولجان الاستثمار الفدرالية، حيث تتصادم الرؤى بين من يرى في الأموال الصينية فرصة تاريخية، ومن يراها تفتح الباب أمام نفوذ اقتصادي وجيوسياسي أعمق لبكين.
ومن منظور أوسع، تُبرز هذه اللحظة تحولاً في النظام الاقتصادي العالمي الذي يتجه نحو تعددية الأقطاب الاستثمارية، إذ لم تعد الولايات المتحدة وحدها محور جذب رؤوس الأموال، ولم تعد الصين مجرد مصدّر للسلع الرخيصة، بل أصبحت فاعلاً مالياً يسعى لتوظيف تريليونات الدولارات في اقتصادات العالم المتقدم لتأمين نفوذ مستدام.
وقبول واشنطن أو رفضها لهذا العرض لن يحدد فقط شكل العلاقة بين القوتين، بل سيسهم في رسم معالم المرحلة المقبلة من العولمة، بما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل ستبقى تحت الهيمنة الأمريكية، أم العكس هو ما سيحدث؟