غرامة تاريخية بمليار جنيه: “المركزي المصري” يعاقب “بنك أبوظبي الأول” بسبب مخالفات في تسهيلات لإحدى الشركات القابضة

الاقتصاد العربي | بقش
في سابقة تُعدّ الأكبر في تاريخ الجهاز المصرفي المصري، فرض البنك المركزي المصري غرامة مالية قدرها مليار جنيه على “بنك أبوظبي الأول – مصر” بسبب مخالفات تتعلق بمنح تسهيلات ائتمانية لشركة “بلتون القابضة”، التابعة لمجموعة “شيميرا” الإماراتية.
الغرامة، التي هزّت الأوساط المصرفية في القاهرة، جاءت بعد تحقيقات كشفت أن التمويل الممنوح جرى استخدامه في غير الغرض المخصص له، وهو ما اعتبره “المركزي” إخلالاً صريحاً بمعايير الإقراض والرقابة.
إلى جانب الغرامة الضخمة، وجّه “المركزي” قراراً بنقل رئيس إدارة مخاطر الائتمان في البنك، في إشارة إلى أن القضية لا تتعلق فقط بخطأ إداري، بل بنظام رقابي تحتاج البنوك الأجنبية العاملة في مصر إلى مراجعته بجدية.
غرامة غير مسبوقة تهزّ القطاع المصرفي
وفق اطلاع بقش على ما نشرته شبكة بلومبيرغ، لم تكن “بلتون القابضة” وحدها سبب الغرامة، بل نمط تعامل البنك مع منح التسهيلات الائتمانية دون استيفاء كامل متطلبات المراجعة الائتمانية، ما دفع “المركزي” لفرض عقوبات مماثلة –وإن أقل حجماً– على بنوك أخرى من بينها “الكويت الوطني – مصر”، الذي بلغت غرامته نحو 170 مليون جنيه.
وتُعدّ هذه الإجراءات من أقوى إشارات التشدد الرقابي التي صدرت عن البنك المركزي المصري منذ أزمة 2008، إذ يرى خبراء أن الغرامة “تضع معياراً جديداً للحوكمة المصرفية” ورسالة صارمة بأن التجاوز في إجراءات الإقراض لن يمر دون عقاب.
كما يرى محللون أن القرار قد يترك أثرًا مباشراً على سلوك البنوك في منح الائتمان، لا سيما للمؤسسات المالية الكبرى التي غالباً ما تحظى بمعاملة مرنة.
في بيان إلى بورصة القاهرة، أكدت “بلتون القابضة” التزامها الكامل بالقوانين واللوائح المصرفية، مشددة على قوة مركزها المالي.
لكن مذكرة بحثية صادرة عن “الأهلي فاروس” حذّرت حسب اطلاع بقش من أن الغرامة –رغم أنها لم تُفرض مباشرة على “بلتون”– قد تُقيد قدرة الشركة على الحصول على تمويل جديد في الأجل القريب، وتؤثر سلباً على خطط توسعها في السوق.
وأضافت المذكرة أن التطورات الأخيرة قد تضغط على سهم بلتون بنسبة تتراوح بين 8% إلى 10%، وهو ما ظهر فعلياً في جلسة اليوم الأربعاء، حيث تراجع السهم بنحو 4.15% إلى 3 جنيهات، متصدراً التداولات في البورصة المصرية.
ويرى محللون أن هذه الضغوط ستستمر حتى تتضح تداعيات الغرامة بالكامل، سواء على البنك المعني أو على العلاقة المستقبلية بين “بلتون” والجهاز المصرفي المصري.
ردّ “بنك أبوظبي الأول”: التزام بالقانون وتعديلات داخلية
في أول تعليق رسمي، قال بنك “أبوظبي الأول – مصر” إنه ملتزم بجميع القوانين واللوائح الصادرة عن البنك المركزي المصري، وإنه يتعاون مع الجهات الرقابية “لضمان الامتثال لأعلى معايير الحوكمة”.
وأوضح أن البنك يراجع هيكله الإداري الداخلي لتعزيز كفاءة التشغيل، مشيراً إلى أن نقل رئيس قطاع المخاطر جاء “ضمن خطة لتطوير الإدارة وتحسين جودة الخدمات”.
ويمثل “أبوظبي الأول – مصر” الذراع المصرية لأكبر بنك في دولة الإمارات، ويُعد ثالث أكبر بنك أجنبي في السوق المصرية بعد استحواذه على “بنك عَوده – مصر”.
ويمتلك البنك حالياً 72 فرعاً في أنحاء الجمهورية، ويُنظر إليه كأحد البنوك الأسرع نمواً في تمويل الشركات والمشروعات الكبرى، قبل أن تضع هذه الأزمة علامة استفهام حول سياسات المخاطر لديه.
خلفيات “بلتون” والتاريخ المالي للشركة
تأسست “بلتون القابضة” عام 2006، وتضم اليوم 18 شركة تابعة تعمل في مجالات إدارة الأصول، الأوراق المالية، والترويج وتغطية الاكتتابات.
بلغت محفظة قروضها حتى منتصف 2025 22.4 مليار جنيه، وفق مراجعة بقش للقوائم المالية المجمعة.
وفي يوليو 2023، جمعت الشركة 10 مليارات جنيه عبر زيادة رأس المال، واجه خلالها بعض المساهمين صعوبات في إثبات الاكتتابات، ما استدعى تدخل هيئة الرقابة المالية وبنك أبوظبي الأول لتسوية الأزمة.
وشهدت الشركة تحولاً في ملكيتها عام 2022 حين استحوذت مجموعة “شيميرا الإماراتية” على 56% من الأسهم مقابل نحو 385 مليون جنيه.
اليوم، وبعد الغرامة، يبدو أن “بلتون” تواجه تحدياً مزدوجاً: الحفاظ على سمعتها أمام المستثمرين، وإقناع البنوك بأنها ما زالت شريكاً ائتمانياً آمناً.
ويشير مراقبون إلى أن الغرامة الأخيرة تأتي في وقت يُعيد فيه البنك المركزي تقييم معايير الإقراض والامتثال في ظل الضغوط الاقتصادية وتقلّب سعر الصرف. فالمؤسسات المالية الكبرى التي كانت تُعتبر “محصّنة” نسبياً، أصبحت الآن تحت مجهر رقابي صارم، في إطار مسعى لفرض الانضباط المالي وتحسين الثقة في القطاع المصرفي.
ويعتبر خبراء مصرفيون أن الحادثة قد تدفع البنوك الأجنبية في مصر إلى مراجعة إجراءاتها الداخلية، خصوصاً في ما يتعلق بمخاطر الطرف المقابل وتمويل الشركات التابعة لمجموعات إقليمية.
الغرامة التاريخية التي فرضها “المركزي المصري” لا تمثل مجرد عقوبة مالية، بل رسالة سياسية واقتصادية بأن عهد التهاون الرقابي قد انتهى. وفي حين تحاول “بلتون” امتصاص الصدمة، و”أبوظبي الأول” إصلاح صورته، يبدو أن القطاع المصرفي المصري يدخل مرحلة جديدة من الانضباط الصارم الذي سيعيد تشكيل قواعد اللعبة بين البنوك والشركات الكبرى.
فما حدث مع “بلتون” و”أبوظبي الأول” قد لا يكون نهاية القصة، بل بداية فصل رقابي جديد يختبر متانة النظام المالي المصري في وجه الأخطاء الداخلية والتشابكات الإقليمية.


